بعد إبعادهم بأمر المُحتل.. كيف يحمي حُراس الأقصى مسجدهم؟
كتبت - دعاء الفولي:
منذ 18 عامًا؛ انضم عصام نجيب إلى زمُرة حراس المسجد الأقصى المبارك، حصل خلالها على إجازة واحدة لبضعة أيام؛ فقرر ألا يفعل ذلك ثانية "بشعر بخنقة إذا ببعد عن الأقصى يوم".. ما يزال الرجل المقدسي يتذكر تلك الأوقات المطمئنة، حين كان بإمكانه الصلاة في أولى القبلتين بأي ميعاد يُريد، بينما صار الآن مُبعدا عنه بيد جنود مُدججين بالشر، بوابات ألكترونية، ومتطرفين يدخلون باحات المسجد وقتما يشائون.
الجمعة قبل الماضية، منعت شرطة الاحتلال الإسرائيلي الفلسطينيين من الوصول للمسجد الأقصى، على إثر عملية نفذها 3 شباب فلسطينيين، أسفرت عن مقتل جنديين إسرائيليين واستشهاد الثلاثة شباب.
مُبكرا بدأت الاشتباكات بين المقدسيين وشرطة الاحتلال، فيما مناوبة نجيب لم تبدأ بعد، إلا أنه توجه للمسجد الذي يبعد عن منزله 10 دقائق "وقتها ما كنت مفكر إنه الأحداث متصاعدة هيك". في ذلك اليوم اختلط الكر والفر والغضب، احتدم الضيق في أنفس الفلسطينيين، لم يعودوا يبالون بالاعتقال أو التنكيل، إذ سُكّرت أبواب الأقصى لأول مرة منذ عام 1969، وحين فتحها المحتل يوم الأحد 16 يوليو، وضع بوابات ألكترونية لتفتيش الداخلين.
ما أن صدر ذلك القرار حتى رابط آل القدس في محيط الأقصى، لا فرق بين نساء ورجال، أو موظف ومواطن عادي. في المقابل ظل الحراس يداومون على عملهم في أقرب نقطة ممكنة من المسجد، رافضين أن تمر أقدامهم من البوابات "ياللي بيعبر منها الآن بنعتبره خائن".. يقولها نجيب، قبل أن يُصنف أنواع العابرين لثلاثة؛ الدراويش "هما ما بيفرق معهم شيء ولا دريانين شو بيحصل"، المسنين "بيكون بدهم يزوروا وما بنقدر نمنعهم"، وأخيرا القادمين من أماكن بعيدة ليروا الأقصى، ورغم ذلك فلا يتعدى عدد الدالفين للمسجد 50 شخصا يوميا، حسب قول الحارس.
منذ الأحد الماضي لا تعرف أسرة طارق الهشلمون النوم؛ تخرج والدته يوميا لتبقى بالقرب من باب المجلس مع السيدات الأخريات، ويرابض الحارس ذو الأربعة وثلاثين عاما على باب الأسباط، تعتريه غُصة مشهد البوابات المهين، يشارك زملائه الهتافات "في سبيل الأقصى قمنا"، ويتصدى للمتطرفين الحائمين حول المكان.
لا يعتبر الحارس الذي يعمل في الأقصى منذ عشر سنوات أن ما يمرون به "نكبة"، بل "ابتلاء يعقبه نصر عظيم". يطمئن قلبه كلما يرى أعداد القادمين للدعم "والله بنشوف ناس ما كانت بتصلي وبتجي فقط من أجل المسجد وحرمته".
في محيط المسجد يبدو المشهد ملحميا. يتواجد موظفوه البالغ عددهم 400، حسب تقدير الهشلمون، بين حراس، باحثين، وعاملين في هيئات الوعظ والإرشاد والسياحة والمخطوطات، يتوزعون بين ثلاثة أبواب للمسجد الأقصى "باب حطة وباب المجلس وأخيرا الأسباط"، لا يتركونها أبدا "بنبدل سويا إذا بمشي حارس بيروح مكانه آخر كأننا في مناوباتنا العادية"، يشبه الهشلمون الزخم بشهر رمضان المبارك "الجميع بده يساعد.. الجميع متحفز ضد الاحتلال"، يعتقد أن الشرطة الإسرائيلية لن تُصعد الإجراءات التعسفية "لأنو هما حسوا بأعدادنا إديش كبيرة"، لكن رغم ذلك لا يسلم الحراس من استفزاز المستوطنين "اليوم مثلا وإحنا عم نصلي العصر وقفوا جانبنا وبدأوا في الصلاة التلمودية بصوت عالي"، تمالك الموجودون أعصابهم حتى رحل المتطرفون.
وقت أن وضع الاحتلال البوابات الإلكترونية، أقسم جميع الحراس ألا يدخلوا المسجد "إلا ثمانية منّا قرروا الدخول". علم الذين مروا عبر "حواجز إسرائيل" أن وجودهم في باحات المسجد يحمل ضمانا صغيرا لعدم سرقته أو تهويده "ويبقى عنّا عين نعرف بها ماذا يحدث"، ولأن العشرة حُراس خاضوا المغامرة عالمين بما ورائها، فقد أبوا الخروج منذ 8 أيام، بينما أكثر من نصفهم لا يستطيع التواصل مع عائلته، يحافظون على رباطة جأشهم قدر المستطاع، ويتوقعون الغدر في أي لحظة، أما الطعام والشراب فيعطيها لهم أصدقائهم من خارج البوابات "الواحد عمره ما تخيل إنه الأقصى يُصبح سجنا لرفقاتنا" حسبما يقول الحارس المقدسي، أسامة صيام، لمصراوي.
كان عُمر صيام 22 عاما حين قدّم أوراقه للأوقاف الإسلامية "ما فيه شروط متعسفة.. أهم إشي تكون قريب من المسجد لحتى ما تتغلب بالذهاب"، ابتهجت أسارير الشاب ذو الخامسة والعشرين عندما تم قبوله "هادا شرف إلنا.. مكرمة من الله.. هدية هنضل نحاول نردها طوال عمرنا"، لذا ما أن تأتي على ذهنه أفاعيل المحتل وأتباعه، حتى يبتسم ثغره باستهزاء.
4 مناوبات تغطي المسجد من الفجر للعشاء "أهم إشي نخلي بالنا من كل زاوية بالمسجد".. يروي نجيب أن الأمر مُرهق، فهم لا يملكون أسلحة ولم يتم تدريبهم عسكريا "نحنا مدنيين وفقط معنا لاسلكي نتواصل عن طريقه". بين براثن سلطات الاحتلال وسخافات المتطرفين عانى الحارس الأربعيني دائما "إذا بييجي السياح تبع إسرائيل بنضطر ندخل معهم لحتى ما ياخدوا شيء من المسجد"، غير أن محاولات السيطرة على المتطرفين تنتهي أحيانا باعتقال الحراس أو الاعتداء عليهم، كما حدث مع نجيب والهشلمون مرارا "لأنه الشرطة متصهينة أكتر من المتطرفين"، فيما يبقى الأسوأ بالنسبة لهما هو الإبعاد عن المسجد.
في إبريل الماضي كان الهشلمون داخل ساحة المسجد حين لاحظ تلفت أحد المستوطنين بشكل غير طبيعي "لما تابعته عرفت إنه سرق حجر من باحة المسجد"، بسرعة شديدة خطف الحارس الحجر من يد الغريب، إلا أن الأخير لم يرتض إعطاءه له، ولمّا تدخلت شرطة الاحتلال قررت معاقبة الهشلمون بالإبعاد عن محيط المسجد مُدة ستة أشهر "كل يوم بيتم إبعاد ناس جديدة.. هما الاحتلال يسموها قائمة سوداء.. ونحنا نسميها القائمة الذهبية"، يضحك الحارس إذ يذكر أن والدته أيضا تم إبعادها من الأقصى لأجل غير مسمى "لأنها من المرابطات"، حيث يتم وضع صور وأرقام هويات المواطنين الممنوعين على جميع البوابات لئلا يعبرون.
يستعيد نجيب أيضا ما مرّ به خلال أعوام الحراسة "عم نواجه على الأقل 100 متطرف بيدخلوا المسجد يوميا وبيحاولوا يخربوه"، لكن ذلك الخطر لا يضاهي ذرة تراب من المسجد، حجر مُلقى في باحته، شجرة عاشت بالقرب منه، أو عمود عتيق داخله "بذكر إني لما خدت إجازة أسبوع أول شيء عملته بعد ما رجعت إني ضليت أحضن أعمدة الأقصى كأنهم ولادي".
حين اندلعت انتفاضة القدس الثانية عام 2000، كان نجيب حارسا لا يتجاوز عُمره 25 عاما "شفنا فظائع.. شهداء وجرحى واعتقالات"، ظلم قوات الاحتلال جاوز المدى، طوفان العنصرية اكتسح القدس "ورغم هيك بشاعة.. ما انغلقت أبواب المسجد إلا عدة ساعات". والآن وبعد 17 عاما يتجول نجيب قريبا من باب المجلس، يحمل هاتفه ليلتقط صورا للمرابطين، يُتابع صدى ما يحدث لهم "بكتشف إنه إديش العرب خذلونا.."، يغوص قلبه حين يدرك أن قرارا واحدا لم يخرج في صالحهم إلى الآن، أما أولاده فتلاحقه أسئلتهم "إمتى بابا بنروح على المسجد؟".
يتصبر الحراس الثلاثة بـ"ونس" المقدسيين حول البوابات، يشتاقون لطقوسهم اليومية في رحاب الأقصى، يفتقد نجيب موضع سجود جبهته على أرض المسجد، وهوائه الناعم وقت الفجر، يشتاق الهشلمون لمكانه عند باب الأسباط، ويسترجع صيام تفاصيل العمل بكل ما فيه من راحة وخطر. لا حيلة لهم إلا البقاء في أماكنهم حتى تُنزع البوابات، أعينهم معلقة بما وراء الأسوار الحجرية، وقلوبهم تلعن المُحتل.
فيديو قد يعجبك: