في سانت كاترين.. هل يُقفل باب حضانة مي "المفتوح على الحياة"؟
كتبت-رنا الجميعي:
تصوير: روجيه أنيس
ظنّت مي عبد الرازق أنها تؤسس مشروعًا يخدم أهل سانت كاترين، عبر ثلاثة أعوام خايلها الشك، لم يقف بجوارها أحد من سُكان المدينة، اعتقدت أنها تُقدم خدمة مجتمعية لهم، بإنشائها حضانة يلجأ إليها الأطفال، لكنها تأكدّت من الخيبة، وقررت الابتعاد عن المشروع، بعد فتحها الباب للصغار على الحياة.
في سبتمبر 2015، كانت الحضانة تفتح أبوابها للأطفال، أعلنت مي عنها عبر المعارف في سانت كاترين، استقرت الشابة بالمدينة منذ خمسة أعوام "قررت إني اسكن هنا، هي دي المكان اللي برتاح فيه"، وبعد وقت عرفت مي أنه لا توجد سوى حضانة واحدة بالمدينة، لا تُقدم نفعًا للأطفال، لذا صممت على تأسيس الحضانة "أنا بحب التعليم وبقرا فيه كتير".
خططت مي للمشروع "كل سنة بكون عارفة ماليًا أنا هكمل السنة ولا لا"، عبر دعم من أفراد بجانب وظيفتها كمُبرمجة، قامت الشابة بإيجار منزل بوسط المدينة، ثُم شراء كتب وألعاب للأطفال، تُقدّم الحضانة تعليم أشبه بالمنتسوري. تؤمن مي أنه لا يوجد نظام كامل "باخد اللي حسب إمكانياتي والبيئة اللي أنا فيها"، وقامت بتعيين ثلاث شابات بدويات لتدريس الأطفال، هم حسنية وهدى وريم.
شقة صغيرة تتلون حجاراتها، لتُصبح المكان المميز الوحيد لأعين الغرباء عن المدينة، تتكون من صالة وغرفتان، تحتوي الصالة على منضدتين وأرفف جرارة تمتلأ بالكتب، وتتعلق رسومات الأطفال على الجدار وردي اللون، توجد غرفة كاملة تمتلأ بالدمى، تُشير مي إليها "أنا أخدت عربية نص نقل للقاهرة عشان آخد كل اللعب دي عليها"، كل ما تحتاجه مي يأتي عبر دعم من أفراد، لا تتبع خريجة علوم الكومبيوتر أية جمعية حتى الآن، وهو ما أوقعها ببعض المُشكلات.
لم يعوق مي أية مشكلة مادية، تقول "عمر ما كان المانع الفلوس، ربنا بيبعت أكتر منا عايزة"، لكن استغلال البعض من أهل المدينة لها يُضايقها "فجأة أول لما أطلب حاجة للحضانة ألاقي سعرها تضاعف"، ترى مي أن هناك من يظنّ لديها كثير من المال "أنا بشتغل فريلانس من البيت، وبطلب إنه يبقى جزئي عشان ألاقي وقت للحضانة اللي مباخدش منها فلوس".
منذ إعلان مي عن افتتاح الحضانة، جاء إليها خلال السنة الأولى حوالي 15 طفل، يتقدم للحضانة من هم في سن الثالثة حتى الخامسة والنصف، ويدفع كل طفل اشتراك 30 جنيها "ودا بيروح لحاجات عشانهم مش لحساب الحضانة"، خلال العام الأوّل انصب تركيز مي أكثر على المُدرسات، تطوعت صديقة لها حاصلة على الماجستير في تدريب الأساتذة "كنت عايزة أعلمهم إن الحضانة مكان آمن، مش من الضرب لا، هما مبيضربوش، لكن آمن من الأحكام على الأطفال".
وجدت مي خلال احتكاكها الأول مع المدرسات طريقة تعاملهم مع الصغار، "كنت بقولهم مفيش حاجة اسمها طفل كسول وطفل نشيط، فيه طفل سريع والتاني بطئ"، استغرقت الشابة العام الأول لتلافي المُشكلات النابعة من تعامل المُدرسات مع الصغار، عبر اللقاءات الأسبوعية والخبرة العملية لهن.
تفتح الحضانة بابها للأطفال منذ التاسعة صباحًا، ينقسموا إلى ثلاث مجموعات مهارية، كل مجموعة تتبع لمُدرسة، "التعليم بيكون عبارة عن لعب، مثلا رسم أو نخرج بره أعلمهم إعادة التدوير، أو رحلة مشي"، تقول حسنية، المدرسة بالمكان، في العاشرة يبدأ الإفطار، الذي تُعدّه سيدة بدوية، يأكل الأطفال معًا، يعودوا بعد ساعة للقيام بنشاط آخر "بيكون فيه جزء تعليمي، بنعلمهم عربي وحساب وإنجليزي باللعب بردو"، كما تذكر هدى. زميلة حسنية.
بداخل الحضانة لا يتعلم الأطفال فقط الحروف الأبجدية، عبر الوقت يكتسبوا سلوكيات مُغايرة لهم "الأطفال في الأول بيكونوا ساكتين، مش متعودين إن فيه حد مهتم برأيهم، المجتمع هنا مقفول، كنت بحط أدامهم الصلصال مش عارفين يعملوا بيه ايه"، الحديث لمي، خلال جلسات تتناقش المُعلمات فيها مع الأطفال عن معاناتهم "بعد كل أسبوع بنفتح نقاش معاهم، بنسألهم ايه اللي مزعلهم في البيت"، تذكر حسنية أن هناك مشكلات مثل "أخويا بيعمل غير اللي اتعلمته في الحضانة أو بابا بيشتم، دي وصلت لبابا بيضرب ماما".
لا تكتفي الحضانة بذلك، تنتقل مي والمدرسات إلى البيوت، يُحاولن علاج تلك المشكلات، "المكان دا مش شكل حضانة بس دا مجتمع داخلي" تقول حسنية، الأمر لا ينتهي عند ذلك، بل هناك أيضًا لقاءات مع الأمهات بشكل دوري، لإفهامهم دور الحضانة عبر فيديوهات تعليمية "أنا بقولهم المكان دا مش بيجهز عشان المدرسة، دا عشان يعلم ابنك مجموعة من المهارات".
توقن مي أن التعليم الحكومي بالعالم يهتم أكثر بالفص الأيسر من المخ "المسئول عن الحساب واللغات وكل الحاجات المنطقية"، لكنه يُنحي جانبًا الفص الأيمن المسئول عن الإبداع "أنا بحاول أنمي الفصين، وأسيب له مساحة يتخيل ويلعب"، تُعدد مي ما لديها، كيف كونت عبر تلك الأعوام شقتين امتلأتا بأفضل المواد التعليمية، تُشير إلى الأرفف الجرارة التي تحتوي على الكتب "دي كتب بتعلمهم الصوت، ودي كتب بتعلمهم الوقت، ودي من خلال اللمس يعرفوا نوع الحيوان".
مع انتهاء السنة الأولى، بدأت مي تُلاحظ ازدياد نسبة الغياب تدريجيًا، التي تفاقمت خلال الترم الثاني من العام الماضي "بقت نسبة الغياب 50%"، استدعت الأمهات لمعرفة المُشكلة، طبعت لكل سيدة ورقة غياب طفلها، تججن كما تقول مي بظروف المنزل، اشترطت عليهن أن من لا يحضر سوف يُطرد، لذا وجدت نتيجة في الشهر التالي، غير أن المُشكلة عادت مجددًا.
ترى مي أن السبب الرئيسي في عدم اهتمام السيدات عدم اقتناعهن بطريقة التعليم، كذلك تؤيدها ريم، وعلى جانب آخر كانت وجهة نظر حسنية أن السبب هم الرجال "الأمهات بتبقى عايزة توديهم لكن الرجالة مش في بالهم".
في حديث مي والمدرسات يتأكد شئ واحد، هو تغير سلوك الأطفال، "فيه بنت أول ما جت مكنتش بتتكلم خالص، ومتحبش حد يلمسها، دلوقت بتلعب وتتكلم وتشتكي لو فيه مشكلة".
مع تفاقم مشكلة الغياب ضاقت نفس مي، بالإضافة إلى استمرارها حتى الآن العمل دون مظلة مؤسسية لأسباب روتينية. قررت إغلاق الحضانة "كنت متخيلة إن المشروع لما يتكلم عن نفسه الناس هتدعمه"، كذلك تقول حسنية "أهل البلد بيدعموا بالكلام بس مش بشكل فعال".
مع تصميم مي على قرارها، فكّرت حسنية في إجراء يحول دون الإغلاق، ذهبت إلى إحدى الجمعيات الموجودة بسانت كاترين، دعّمها المسئولين بها "قالوا علينا المكان وانتوا عليكم الأدوات"، مع ذلك ستتوارى مي عن الأنظار "عشان أي حاجة تنجح في المجتمع دا لازم تكون فيه مشاركة أهلية"، ستُكمل حسنية المسيرة "مي حطت لينا خطوات وهنمشي عليها"، فهدف مي كان "لازم عملية التعليم ترتبط بانبساط الأطفال، لازم يبقى ليها علاقة بالحياة".
فيديو قد يعجبك: