وجهان للرحلة.. "مصراوي" على درب شهداء المنيا إلى دير الأنبا صموئيل
كتبت- مها صلاح الدين وشروق غنيم:
تصوير- كريم أحمد ومحمد حسام الدين:
في رحلة خارج إطار العالم لمدة يوم واحد؛ خرجت عدة أسر من أقباط محافظة المنيا، في الخامسة من صباح السادس والعشرين من مايو 2017؛ ليبتاعوا ما يلزمهم من مؤن لشّد الرحال نحو دير الأنبا صموئيل المعترف، إلا أنهم بفعل الإرهاب الغاشم، لم يستطيعوا الوصول.
وعلى نفس الطريق؛ بعد نحو 14 ساعة، تمكنت الأسر نفسها من الوصول إلى الدير، داخل صناديق خشبية، بأجسادٍ مثقوبة داخل 8 عربات إسعاف، ليكون مقصدهم صباحًا، هو مثواهم الأخير، "مصراوي" صاحب الجثامين في رحلة العبور نحو الدير، ليرصد تفاصيل لحظاتهم الأخيرة.
وفي الوجه الآخر للرحلة، على مدخل مدينة بني مزار؛ في الثامنة مساءً، خيّم الهدوء، عدد قليل من المارة يطأ المكان رغم وجود سوق، لكن حين تصل إلى مطرانية كنيسة ماري مرقص بالمدينة، يحّل زخم كبير، إذ تتعالى همهمات وصراخ المصلين على 8 من قتلى حادث دير الأنبا صموئيل.
أمام المطرانية تسمّر حشد كبير؛ يحملون قصصًا جمعتهم مع أصدقاء وجيران العُمر، انتهت جميعها بذكر أسمائهم على شريط الأخبار كضحايا، من بينهم هاني ميخائيل، وقف يستدعي ذكرياته مع رضا فاروق، من 20 عامًا، مُذ كانا "أصحاب تختة واحدة في المدرسة".
لم تكن تلك الزيارة الأولى لرضا فاروق إلى الدير العتيق، فاعتاد الأب الثلاثيني اصطحاب زوجته وأولاده الثلاثة إلى هناك، لكن أمس الجمعة، كانت المرة الأخيرة له وللأم، فيما أصيبت ابنته ونُقلِت إلى القاهرة، ونجا اثنين من أبنائه.
بعد انتهاء الصلاة سيمُر الزوج والزوجة من أمام محال الأدوات الكهربائية الخاص بهم، لكن كجثامين لا تستطيع الولوج إلى مصدر "أكل عيشهم"، بل تنتظر الوصول إلى الدير نفسه، للدفن.
بداخل المُطرانية؛ كان الوضع مُرتبكًا، أنّات أقارب الضحايا تغُلف المكان، تواجدت قوات الأمن بشكلٍ مُكثّف لتأمين الصلاة، وبالرغم من التشديد الأمني، انتاب رواد المطرانية حالة من الارتياب من تواجد صحفيات "مصراوي"، ما دفعهم يصرون على التحقق من هويتنا أكثر من مرة.
في المطرانية، ارتكنت إحداهما إلى الحائط تبكي صديقتها، البعض بدأ وصلة رثاء لسيرة طيبة خلّفها الراحلون ورائهم، آخرين لم يمكنهم هول الموقف من إتمام الكلمات، وحين تسأل عن صلة الحاضرين بالضحايا، ترددت جملة واحدة على أغلب الألسنة "نعرفهم كلهم، دول عشرة عُمر. جيرانا وصحابنا وأقاربنا".
حالة من الهلع، صاحبت الخروج غير المفاجئ للجثامين من مطرانية بني مزار، القابعة بشارع طريق البحر، الجميع يهرول نحو ثلاثة حافلات مصفوفة، خصصتها المطرانية لنقل مريدي متابعة الجنازة، يقف أحد أساقفة الكنيسة أمامها ويصيح: "الأولوية لأقارب الشهداء فقط".
حاولنا اللحاق بركب منهم بإذن من الأسقف، إلا أنه اعترض في البداية، معللا ذلك بمشقة الطريق، ومع امتلاء الثلاث حافلات كان الأسقف قد اقتنع أخيرا، إلا أن سائقو السيارات مضوا في طريقهم بعد أن امتلأت الحافلات على عروشها، دون أن يستمعوا لملاحقة أو توسلات أحد.
وسرعان ما سعينا لملاحقة الركب، داخل صندوق أبيض مفتوح الأبواب، أطلق عليه ركابه "ثلاجة"، سيارة نصف نقل، كانت تحمل اثنى عشر رجلا، مكومون داخل مساحة لا تتجاوز الـ 2 متر مربع، يتناوبون في جلساتهم، يحاولون إيجاد وضعية تحفظ لأجسادهم حد أدنى الراحة.
بشق الأنفس؛ خرجت عربات الإسعاف ترافقها حافلات الأهالي من شارع المُطرانية، في العاشرة مساءً. دّبت الحركة في المنطقة بعد هدوءها، وانهمرت فيها جموع الناس بعد انتهاء الصلاة، عدد قليل جدًا من النساء ذهب بالعربات للدير "عشان طريق جبل وصعب عليهم"، فيما ضجّت عربات ربع نقل بهتافات الشباب "يا رب.. الشهيد حبيب الله"، كان المشهد أشبه بموكب يحمل الضحايا.
وسط رجرجات السيارة، وأكوام البشر، والغبار المنبثق من كل مكان، يلتقط ميلاد ثابت، المحامي القصير الذي يسير في العقد الرابع من عمره أطراف الحديث، والذي علم بالحادث عبر التلفاز في التاسعة صباحا، وسرعان ما هرع نحو المستشفى العام، ليجد جثمان ابن عمه قد وصل إليها، قبل أن يخرج بعد أربعة ساعات من "الثلاجة" دون تشريح، امتثالا لأمر الجهات السيادية، ويتوجه مع جثامين الستة أقارب، نحو "مطرانية بني مزار" وسط الحشود، ليقيموا بداخلها مراسم صلاة الوداع، وسط نحيب النساء، ووجوه رجال يكسوها الاحتقان.
تكدس السيارات، وتزاحم المارة السائرين على أقدامهم، جعل السيارة تسير ببطئ شديد، فتجاوز الأمر الساعة ونصف فقط للخروج من بني مزار، واستقلال الطريق السريع، نحو دير الأنبا صموائيل المنشود، ما جعل الرجال يتبادلون التحليلات حول الحادث، ويحاولون الربط بينه وبين حادث ذبح الـ 21 مصري قبطي بليبيا والتمثيل بجثثهم في مقطع فيديو مروع، منذ عامان.
وسرعان ما تحولت الأجواء داخل السيارة من الحنق، لمقتطفات من الكوميديا السوداء، ليقول "هاني": "إزاي اسمها تلاجة واحنا هنموت من الحر.. أنا مش عارف آخد نفسي"، ويحاول كيرولوس الوقوف منحنيا ليريح قدميه قليلا، التي تملك منها الألم نظرا لضيق المساحة، وهو يزفر آخر نفس من سيجارته، مازحا: "طب كانوا حذرونا زي ما السفارة الأمريكية بتحذر رعاياها".
نصف ساعة هي المدة التي استغرقتها "الثلاجة" على الطريق السريع حتى تحولت إلى أول مدق دير الأنبا صموائي الجبلي، وتحولت معها معاناة ركاب السيارة من الجلسة غير الآدمية، إلى هزات أجسادهم على الطريق الجبلي غير الممهد، ينبعث من خلاله الغبار من كل مكان، ليردم وجوههم وأنوفهم وأجسادهم وأمتعتهم، إلا أن ذلك لم يوقفهم عن تبادل الحديث، والشجار أحيانا حول تحديد هوية الجاني والمسؤول عن تلك الوقائع.
وبعد مضي 18 كيلو في المدق الجبلي، صمت الجميع، في حضرة مسرح وقوع الحادث، حتى غطت الدماء رمال الطريق، وشكل الزجاج طبقة لامعة تعلو الرمال، فيستحضر الجميع الحادث متسائلين، عما إذا قامت الجهات الأمنية بإزالة حافلة الركاب، التي كانت فد قبعت هنا منذ الصباح للمعاينة، أم فقط لتجنب استفزاز أهالي الضحايا، قبل أن يزفر الجميع زفرة ارتياح لبلوغهم مقر الدير.
في الحادية عشر ونصف؛ وصلت العربات إلى الدير، مكان واسع به أماكن مختلفة لا تظهر بسبب ظُلمة الليل، بينما التحف المكان بالنجوم. أنزلت عربات الإسعاف الصناديق الخشبية، وتلى الرهبان الصلوات على أرواح الراحلين مرة أخرى قبل الدفن.
أمام صلاة "الأنبا صموئيل المعترف"؛ وقف الأب يوئيل الصموائيلي يتذكر خطته لاستقبال الأسر في الصباح لزيارة المكان المُقدّس، فيما انقطع انتظاره حين أخبره أحد الرهبان، عن الحادث، بعدما مّر عليه، إذ يفصل مكان الحادث عن الدير حوالي 18 كيلو مترًا.
كان من المقرر أن يصطحب الأب يوئيل، الذي يمكث في الدير منذ ثلاثة عشر عاما، الأسر في زيارة للدير الذي يحمل جسد صموائيل المُعترف من القرن الرابع "عشان ياخدوا بركته"، فيما انقلبت الزيارة لعزاء، يستقبل فيه جثامينهم للدفن، وهي المرة الأولى التي يُدفن فيها أحد بالدير نفسه.
ومع حلول الواحدة من صباح الـ27 من مايو، انتهت مراسم الدفن، عاد الأهالي إلى عرباتهم، لتشق طريقها إلى مدينتهم بني مزار، في الطريق حين مروا على مكان الحادث، نزل عدد من الرجال، لالتقاط الرمال المختلطة بدماء الضحايا "دمهم لسة منشفش"، فيما عبأها البعض في أكياس بلاستيكية للاحتفاظ بها، وفي طريق العودة، نفّذت طاقة أحدهم فتساءل بغضب "دلوقتي لو عاوز أجيب حقهم، أقاضي مين؟".
فيديو قد يعجبك: