"مثل فيروز وأم كلثوم".. كيف رأى مُحبو "السفير" صحيفتهم المفضلة؟
كتبت-رنا الجميعي ودعاء الفولي:
في تلك الأيام يوّدع اللبنانيون جريدة السفير ذات الاثنين والأربعين عامًا. يتلهفون لاقتناء العدد الأخير الذي سيصدر غدًا. تختلج صُدورهم بحنين خفيّ لجريدة بمنزلة "فيروز"، غير أنهم ليسوا الوحيدين، فالمطبوعة التي كان شعارها "جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان"، أحبّها مصريون أيضًا؛ ترفع حسّهم العروبي وتُعلي من ثقافتهم. بين باحثة ومدرس صحافة داوموا على قراءة السفير، قارئة لبنانية وواحد من أسرة الجريدة، يروون لمصراوي ما الذي يعنيه إغلاق "السفير" بقيمتها وقاماتها.
مع كل صباح كانت السفير هي وجهة الباحثة مرفت أبو العينين، تُطالع مقالاتها، تقرأ لعديدين أمثال جميل مطر ومصطفى اللباد "بس كنت بقرأ بالذات لوائل عبدالفتاح لأنه ممنوع من الكتابة في مصر". أثناء عام 2013 دعاها رئيسها مع زملائها بالمركز البحثي لمتابعة الجريدة اللبنانية، حينها تصفحت أبو العينين موقعها الإلكتروني للمرة الأولى، فوجدت كتّاب رأي ذوي ثقل ورؤية.
حزنت أبو العينين حينما علمت بقرار الإغلاق، إذ أحبّت كاريكاتير الجريدة "كان مميز ومختلف"، واستغنت مرة بعد الأخرى عن الصحف المصرية، وفضّلت عليها شقيقتها اللبنانية، كما اهتمت بالقسم الثقافي بالسفير.
في منطقة الحمراء ببيروت، من داخل الجريدة العتيقة امتدت علاقة ربيع بركات بالسفير لثلاثة عشر عامًا، حينما ساهم عبر مقالات لعِقد من الزمن، ثُم انضم لأسرة الجريدة كمساعد رئيس قسم قضايا وآراء، وبعد عام صار رئيسه.
تَعني الجريدة لبركات الكثير، فهي تجربة عريقة شارك بصناعتها عدد كبير من الصحفيين والمحللين السياسيين الكبار، كما يقول. منهم جوزيف سماحة، رئيس تحرير الجريدة في فترات سابقة. وكتاب كبار أمثال سعدالله ونوس، عبد الرحمن منيف، عزمي بشارة، محمود درويش وياسين الحافظ.
في مارس الماضي، فاجئ طلال سلمان، مؤسس السفير، الجميع بإعلانه وقف الجريدة عن الصدور، لكنه تراجع مع تصريحاته التي انتشرت حول صمود الجريدة لوقت أكبر. وقال في حوار وقتها لمصراوي "ستصدر السفير كلما استطعنا الإبقاء عليها"، حينها صُدم بركات بقرار الإغلاق، وعلم أن الاستئناف مؤقت "كنا عارفين إنو فيه أزمة بس الأمور ما كانت محسومة".
يقول بركات لمصراوي إن قرار الإغلاق السابق بررته الإدارة بسوء الأحوال المالية "أنا بتقديري الصحافة بلبنان والعالم العربي تعاني من أزمة ناتجة عن صعوبة الانتقال من المرحلة الورقية للنموذج الرقمي"، ويُضيف أن هذه المرحلة الانتقالية "مش عم نقدر نخوضها بالشكل اللازم".
ببداية ديسمبر الحالي، جاء قرار الوقف النهائي، وأصدرت الجريدة بيان وداع قيل فيه "ولقد اجتهدنا ما وسعنا الاجتهاد، وبذلنا من عرق التعب، وأحيانًا من الدم، فضلاً عن مطاردتنا بالتفجيرات، وصمدنا للاجتياح الإسرائيلي وللإقفال الظالم، صمدنا مع المقاومة المجاهدة، وإلى جانبها على امتداد مسيرتها حتى التحرير، ثم واكبناها وهي تواجه حرب يوليو وتنتصر".
خلال الأشهر القليلة بين إصدار هذا البيان والقرار الذي تم التراجع عنه "حاولت إدارة الجريدة تدارك الأزمة" إلا أنها لم تستطع، حسب قول الصحفي اللبناني.
يُفنّد بركات الإشكالية التي تعاني منها الجريدة، فبجانب الأزمة المالية، هناك مسألة الاستقطاب السياسي الحاد "بالمنطقة مش بلبنان، وهايدا بيجعل وسائل اعلام كتير خاضعة لدعم مالي سياسي".
فيما يتبقى ساعات على إغلاق الجريدة، مازال تحديد الوجهة أمرًا صعبًا على بركات "بعدِنا بمرحلة طي الصفحة"، لكنه ينوي على كل حال الاتجاه للعمل الجامعي كأستاذ.
حالة الضيق التي يمر بها بركات، وصل أثرها إلى محمد فتحي يونس، مدرس الصحافة بجامعة المنصورة، فطالما اعتبر الجريدة عابرة للطوائف، وانجذب إلى حسّها العربيّ، حيث لم تعد شأنًا محليًا فقط "هي ظاهرة عروبية زاهية في زمن بهتت فيه فكرة العروبة".
يسرد يونس بعض مواقف السفير التي ناصرت فيها الثوابت العربية "كانت ضد غزو العراق"، وذلك على الرغم من تبدل مسميات الاحتلال مرات بالإعلام العربي والغربي "كتحرير العراق ومقطرة العراق".
تعرضّت السفير للخطر بسبب مبادئها، حسبما يرى يونس، كما حدث من قصف مطابعها عام 1980، حيث كانت ضد جولات إسرائيل التخريبية بالمنطقة. في تلك الفترة لم يكن قد تابعها بعد، إلا أنها جعلت منه قارئًا نهمًا.
تابع يونس بالجريدة أقلام مثل عباس بيضون، حازم صاغية، وطلال سلمان. وظلّ يُداوم على قرائتهم بعد انتقال بعضهم لأماكن أخرى.
لن يتوقف يونس عن الأمل في الأفضل "سبق أن أعلنت الإغلاق ثلاث مرات وجاء من ينقذها، وأنا أنتظر عودتها مرة أخرى"، إلا أن بركات لا يشاركه ذلك الشعور؛ يساوره الحزن لأن السفير ستنتهي للأبد، قائلا "بيحزّ بنفسي العاملين فيها خصوصًا اللي صار لهم سنين".
بالنسبة لهويدا سعد، فالسفير تُمثل لها "الحنين إلى الماضي"، تتذكر السيدة اللبنانية وقت أن كانت تشتريها خلال المرحلة الثانوية "وعم كنت بقرأها صفحة صفحة". الأمر بالنسبة لسعد لم يكن هواية فقط، فخلال الحرب الأهلية كانت الجريدة وجهتها الأولى، تعرف من المانشيت ما يجري في لبنان الغربية والشرقية، تنقل لها ما لا تستطيع رؤيته على الأرض.
ورق السفير له رائحة تُحبها سعد، مادتها الدسمة هي وجبتها المفضلة. لكن أكثر ما يربطها بالصحيفة "كُتيبات صغيرة بيوزعوها مع أعداد السفير، كانت قصص عالمية". تحتفظ السيدة بالكتيبات إلى الآن "ألوانها كتير حلوة وملفتة إلنا نحنا الصغيرين.. بذكر إنه أكتر كتاب حبيته لهدى شعراوي".
تعرف السيدة أن ثمة أزمات في السفير كبقية الصحف اللبنانية، لكنها لم تتوقع الإغلاق. أكثر ما ساءها بعد افتقاد روح الجريدة هو مقالات الكاتب جورج علم التي تابعتها دوريًا.
حتى وقت قليل قبل صدور قرار الإغلاق "كنت متأملة إن السفير يظبطوا حالهم ويواكبوا العصر أكتر ليستمروا"، ولكن بتأكيد الخبر شعرت هويدا بغُصة.
بينما تحاول سعد استيعاب انقطاع السفير، يستعيد بركات تفاصيل اجتماع الجريدة الأخير، وقتما رغب الصحفيون أن يحتوي العدد النهائي على كتابات عن تجربتهم الشخصية بالجريدة، لكن تلك الرغبة لم تكتمل، قائلا لمصراوي إن العدد سيكون تذكاريًا في 48 صفحة "هيكون بالأساس مادة أرشيفية بها أبرز المانشيتات والمقابلات والمقالات على مدار تاريخ الصحيفة".
ليس ثمة بديل للسفير في رأي هويدا، ولا لحالة التشبع الثقافي التي تحاوطها كلما تقرأ الجريدة. صارت توقن السيدة أنها لن تهتم بمتابعة ما قد يصدر خلفا لصحيفتها المفضلة "الحديث عن البديل يبدو وكأننا بنتحدث عن بديل لأم كلثوم أو لفريد الأطرش".
اقرأ أيضا:
طلال سلمان: لبنان مرآة عاكسة للأوضاع العربية.. والسفير مستمرة في الصدور (حوار)
فيديو قد يعجبك: