بالصور - عبده وعبدالحي.. "عِشرة عُمر" تفحّمت في "حريق المعادي"
معايشة - محمد مهدي:
تصوير - محمود بكار:
نيران مستعرة، ضجيج الفزع يصم الآذان، جدران العقار رقم 4 بشارع 293 بالمعادي الجديدة تتهاوى، رجال يرتدون بذات الدفاع المدني يهرولون بخراطيم المياه للسيطرة على الحريق، سلالم هيدروليكية ترتفع للطوابق العالية لإنقاذ السكان، فيما يقف وسط الجميع رجل سبعيني أسمر، يرتدي جلباب بسيط وعمامة، عيناه لا تزوغان عن الطابق الأرضي بالعقار، يُمسك بين الحين والآخر بأحد المنقذين متسائلًا "محدش شاف عبده البواب" لكنه لا يتلقَ إجابة تحميه من قسوة القلق على صديق عمره، الذي جالسه قبل وقوع الانفجار "سابني وطلع الدور الخامس يجيب منه حاجة. وأول ما وصل بالاسانسير الدور الأرضي. حصل الانفجار والبيبان فرت علينا" يرددها "عبدالحي" صديق حارس العقار، بلسان مرتجف من الصدمة.
بعد ساعات من المحاولات المستميته لرجال الأمن لإنقاذ سكان العقار، ظهر ابن عم عبده، حارس العقار- القناوي-، القلق ينهشه، يبحث عن والده صاحب الـ 77 عاما بين الزحام والرُكام، يقترب من الحريق، يقتلعه الجيران من مرمى الخطر، من بينهم "عبدالحي" صديق والده "جولتله أبوك جوه، ربنا يجيب العواجب سليمة"، يرُددها الرجل لمرات بلهجة صعيدية كأنه يدفع الخيالات المؤلمة عن عقله "عبده راجل طيب ومحبوب من كل الناس هنا، على طول قاعد على الفَرشة اللي قدام العمارة، واللي رايح واللي جاي لازمن يسلموا عليه".
قُرب منتصف الليل، خفت الحضور، انسحبت سيارات الإطفاء والإسعاف، بعد خروج جميع قاطني العقار سالمين، انهمك رجال الشرطة في البحث عن "عم عبده" غير أنهم لم يعثروا له عن أثر، هدهم الإرهاق، ألقوا نظرة أخيرة داخل الأسانسير وخلف الحطام، ثم تراجعوا معلنين انتهاء عملهم، يصيح رفيق العُمر بصوت ضعيف "لقيتوا عبده؟ طيب ماشين ليه؟" يخمن أحد المسؤولين أن الحارس لم يتواجد بالداخل أثناء الانفجار، فيما ينفعل عبدالحي "إزاي بس انا شوفته وهو جوه، ومتحركتش من مكاني لو طلع كنت شوفته".
على فَرشة من بقايا ورق كرتوني، جلس الرجل القادم من نجع حمادي ومن حوله أهالي المنطقة، قابضًا بيديه على مذياع حديث، يراقب بقايا الحريق، منتظرًا العثور على صديقه في أية لحظة "كان عايش لوحده، مراته وولاده التلاته في البلد إلا واحد شغال في الشركة اللي جنبه. غلبان بيجري على لقمة عيشه"، يتذكر بداية صداقتهما، الممتدة منذ نحو عقدين من الزمن "كنت شغال غفير في بيت جنبه، وكنا دايمًا مع بعض، نخلص يومنا ونقعد سوا"، يتبادلان الحديث عن وعورة الغُربة "زمان المنطقة هنا كانت هِو"، تحولات الزمن، وأهمية تأقلمهما مع هذا العالم البعيد عن بلادهما "جيه العمارة دي من زَمن، كان شغال في غيرها، ولما ولده الصغير مات، جال مجعدش فيها تاني وجيه اشتغل هنا".
منذ نحو شهرين، تشاجر "عبدالحي" مع أصحاب العقار الذي يعمل به، اختلف على مدة إجازته، فقرر الرحيل، سافر إلى بلدته، لكنه لم يطق "القَعدة" دون عَمل، اختار الرجوع إلى المعادي للبحث عن رزق جديد "كلمت عبده وجولتله هاجي أجعد معاك لحد ما يحلها ربنا"، وقبل 6 أيام وطأت أقدامه الشارع الهاديء، ليستقبله صديقه بابتسامة طيبة، قبل أن يقتسما "فَرشته" التي ينام عليها "معندوش أوضة في العمارة، بينام بليل قدامها على الفرشة وأنا بقيت جنبه".
عم عبده، لا يتخلى عن عاداته اليومية-وفق رفيقه- الاستيقاظ مبكرًا لصلاة الفَجر ثم ري الأشجار المحيطة بالعقار، قبل أن تدب حركة الشارع بحضور الموظفين العاملين بالشركات المجاورة "يعرفهم واحد واحد بالاسم، ويحبو يكلموه ويطمنوا عليه"، يمكث طوال اليوم أمام العقار، يتسامران طوال الوقت ولا يتحرك إلا للصلاة في المسجد القريب، أو قضاء حاجات السكان "الكلام الطيب والابتسامة متفرقهوش" يُعدد رفيق الرحلة أخلاق "عم عبده" الحميدة التي عايشها على مدار 20 سنة، واستعادها عن قُرب خلال الأيام الفائتة.
يمضي الوقت بثقل، يحتضن الرجل مذياعه، يخشى ضياعه بين الناس "اشتريته وأنا جاي من العتبة، كنا بنسمع عليه فيروز وفايزة ونجاة، وهو كان يحب نشغل إذاعة القرآن الكريم قبل ما ننام"، وبين الحين والآخر تمر سيارات أمام العقار المحترق، تقترب من الرجل السبعيني الذي لا يريد النوم، يخرج القائد رأسه من النافذة، يتساءل "لقيتوا عم عبده"؟ ينظر لهم الرجل بأسى، لا يتفوه بكلمة لكنهم يفهمون، يبادلونهم نظرات الحزن، قبل أن يرحلوا "خير خير".
في الساعات الأولى من صباح اليوم الاثنين، حضر رجال شرطة من قسم البساتين، استكملوا عمليات البحث عن "عم عبده" المختفي، بمساعدة جيرانه وذويه، قبل أن يصرخ أحدهم عندما عثر عليه متفحما تحت الأنقاض، انتفض صديقه، انتظار البلاء المحتمل أفضل من وقوعه، خرجوا بالجثمان من العقار، نظر إليه "عبدالحي" وعيناه تقطر حزنا، قبل أن يوجه نظره نحو "الفَرشة"، اليوم سينام وحيدًا دون رفيقه.
فيديو قد يعجبك: