هل يضع الصحفيون في مصر رقابة على أنفسهم؟ (تقرير)
تقرير– يسرا سلامة:
من فكرة أو حدث أو قصاصة جريدة قديمة، تنشأ تقارير إخبارية وتحقيقات وغيرها من أشكال الانتاج التي تقدمه صاحبة الجلالة لقرائها، وبين آلاف الكلمات المطبوعة والإلكترونية، يتخذ الصحفيون مئات القرارات الأخلاقية والمهنية حول قصصهم.
وبين مالك وسياسة تحريرية ومناخ عام ملبد بالضغوط، لا تنفصل كلها عن ها الوحش الساكن لدى عدد من الصحفيين المسمى بـ"الرقيب الذاتي"، التي إن طبقت بمعناها الإيجابي تجعل الصحفي يحذو القواعد المهنية والضوابط الأخلاقية، غير أن معناه السلبي هو ذلك الخوف الذي يرسم فيه الصحفي خطه الأحمر لنفسه، ويجعله الرقيب "الملكي أكثر من الملك"، لعدة أسباب ووجهات نظر.
وفي اليوم العالمي لحرية الصحافة، يستمع "مصراوي" إلى عدة صحفيين من تجارب صحفية وإعلامية مختلفة حول "الرقيب الذاتي" بداخلهم، عن الخوف إن كان موجودا وأسبابه، ثم إلى أستاذ في الصحافة ليفسر الظاهرة في المجتمع المصري.
الرقيب الذاتي يختلف عن قرار النشر
لا يجد الوليد اسماعيل، الذي يغطي أحد المصادر القضائية لأحد الجرائد الخاصة، إن بداخله أي خوف من رقيب ذاتي، قائلا إن هذا الرقيب موجود في الوسط الصحفي ولا يستهان به، لكنه يقدم كل مادته الصحفية، ولا تخضع للخوف أو لخط أحمر بداخله، وهذا يختلف تماما عن قرار النشر، قائلا "الصحفي يقدم كل المادة الصحفية أو قصته وقرار النشر بيكون تبعا للأعلى منه، ده مش قرار الصحفي".
رغم قرارات بعدم النشر الذي واجه الوليد في بعض القصص، إلا إنه يؤكد أن الرقيب لا يجب أن يكون بداخل الصحفي المهني والحر، مطلقا على هؤلاء اسم "فصيل المجانين" في عالم الصحافة، اللذين لا يخشون مصدرا أو مالكا طالما الموضوع مهني، مضيفا أن المحرر الصحفي الذي يخشى مصدره ويميل إلى التماهي مع المصدر، لا يدرك تماما للخطوط الفاصلة بين المصدر والصحفي، ويعتبر أن تلك مشكلة أزلية في الصحافة، تفرق بين المحرر الواعي بدوره، وغيره.
من يحمي الصحفي إن تخلى عن رقيبه الذاتي؟
"أنا واحدة من الناس كدة".. أردفت بها الصحفية بأحد الجرائد القومية منذ بضع سنوات، متحفظة على نشر اسمها، معترفة إن ليس فقط الرقيب الذاتي الخائف يتواجد بداخلها، إنما يكاد يكون هو الذي يكتب الموضوعات الصحفية الخاصة بها، "ببعد عن أي موضوع يجبلي قلق"، تسرد الصحفية التي تغطي أخبار لمحافظة القاهرة إن الصحفي لا يقوى أن يكون "بطلا"، فصراع أو جدل بين المصادر والصحف ربما يخسر فيه طرف واحد فقط وهو "الصحفي نفسه".
"أنا اللي هخسر.. بخاف لإن عندي أولاد وعيلة" سبب وجيه كما تقول الصحفية لأن يحكم هذا الرقيب ما تقدمه من محتوى صحفي للقراء، تذكر مثال على قصة فساد وقعت تحت أيديها أوراق لتلك القضية، اتخذت طريقها إلى رئيس قسمها، ومنه أمسكت الخيط بالحماس للقصة، وجاءت بردود من الطرف الأخر، لكن هذا لم يمنع اصطدامها بالرقيب داخلها يذكر لها ما بدا قرار بمنع القصة "لقيت إن كل طرف بيدور على مصلحته وما بيقولش الحقيقة، وأنا اللي هضيع في النص، يعني مافيا وكل واحد بيحقق مكاسب".
"لو كان حصل والقضية مشيت.. مفيش جرنان أو نقابة ممكن تدافع عننا" الدفاع عن الصحفي أيضا كان دافعا لها، التي تقول إن موقفا حدث لها إبان عملها قبل ذلك مع أحد الجرائد الخاصة، التي نشرت خبر لها ، وكانت الصحفية ترفض نشره، عن سقوط صخرة في الدويقة تتبع السقوط الأول الكبير الذي تم في عام 2008، ورغم أن الصحفية لم تكن راضية عن الخبر إلا أن الموقع الخاص نشره باسمها، وتلقت بعدها اتصالا من المحافظ يقول لها "أنا هرفع عليكي قضية"، وحين ذكرت القصة لمسؤوليها في الموقع لم يبدُ أي حماس بالدفاع عنها.
تهرب الصحفية من هذا إلى "حائط آمان" بموضوعات بعيدة عن "الفرقعة"، حتى وإن وقعت في يديها موضوعات جدلية تسير فيها بمنطق حيادي، ترى أن التجارب السابقة تدفع الصحفي أن يضع بعضا من الخطوط الحمراء لنفسه، في ظل أجواء غير مأمونة للصحفيين، كما تقول.
الرقيب الأمني يغلب الرقيب الذاتي
ليس بدافع الخوف ولكن المهنية، يرى عبد الرحمن محمود - صحفي حر لأحد المواقع الخاصة- أن الرقيب الذاتي غير موجودا بالأساس لدى الصحفيين هذه الأيام، فسقف السياسة التحريرية والمناخ السياسي والصحفي لا يترك لأبناء صاحبة الجلالة أي خيار بشأن الحسابات بين الصحفيين وأنفسهم، ليقول إن الغالبية من الصحفيين يتلمسون رضا مرؤوسيهم ومصادرهم، ولا رقيب يدفعهم لموضوعات مهنية تشتبك مع اهتمامات القارئ.
"إحنا موجهين جدا.. محدش بيطلع برة الاتجاه ده بسهولة، أساس الصحافة إنها تخدم الناس وتقدم مصالحهم، لكن إحنا معندناش صحفيين فاهمين مهامهم الحقيقية".. يردف عبد الرحمن إن الرقيب الذاتي يجب أن يدفع الصحفيون لموضوعات يستفيد منها القارئ، وتقدم له المعلومة ليحكم، لكن لدينا الآن "صحافة جمعية" بحسب رأيه؛ لا تخرج عن المألوف، في الوقت الذي يُسجن فيه صحفيين بسبب قضايا نشر، يخشى الصحفي على مصدر رزقه، إن كان راتبه، أو مصدره، كما يخشى السجن في ظل عدم وجود مناخ ديمقراطي يسمح بصحافة حرة.
يذكر عبد الرحمن أن سبب للخوف الكامن في نفوس الصحفيين هو عدم تعليم وتربية الصحفي بالأساس على معايير مهنية، مذكرا أن خلال دراسته بكلية الإعلام أو حتى عمله في مؤسسات صحفية، لم يذكر أي من ذوي الخبرة للصحفيين الجدد عن العلاقة المهنية بين الصحفي والمصدر، وهو الذي جعل الغالبية من الصحفيين "مندوبيين" لدى مصادرهم، ينشرون ما يتوافق مع هذه المصادر، ولا يشتبكون من أجل مصلحة القارئ، يقول عبد الرحمن إن هذا الخوف يجعل الصحفي "خائن للأمانة"، إذ إنه أحيانا يرفض نشر معلومات بدافع الخوف، ويقدم مصلحته ومصلحة مصدره على حساب القارئ، ويأتي أيضا في مناخ يرضخ فيه الصحفيون للرقيب الأمني.
الرقيب "بيزنس" وحكم من الصحفي على القارئ
لا يبدو الأمر أزمة لـ"ريهام"- اسما مستعارا- التي تعمل لصالح أحد المؤسسات الاعلامية الأجنبية في مصر، فخطوطها الحمراء هى نفس القواعد المهنية التي تحتكم لها المؤسسة التي تعمل لها، وهو كما تذكر تقديم الحيقة وعدم الإنحياز إلى جانب على حساب آخر، غير أن هناك خطا آخر تستمع له من مصادر أو من زملاء في مؤسسات أخرى وهو "مصلحة البلد"، يعلو هذا كما تقول بعكس أن تكون المؤسسة على مستوى محلي، لكن إن كانت المؤسسة دولية يكون هذا ضغطا - لا تخضع له ريهام.
ترى ريهام إن الرقيب الذاتي يعد رقابة على القارئ بالأساس، لإنه لا يضع الحقائق أمامه، ويسمح للصحفي بأن يحكم على المحتوى والمعلومات، رغم أن القارئ - أو الجمهور - لديه ما يكفي من النضج للحكم على أي قضية، وتقول إن خوف الصحفي لا يصنف تبعا لرأيها على إنه رقابة بقدر ما هو تحيز من بل الصحفي، وأحيانا يكون نوع من "البيزنس" بين الصحفي ومصدره، في حين تسمح ريهام بأن يكون الرقيب فعالا إن كان الأمر متعلقا بحياة المصدر أو سلامة الصحفي، ونشر تلك المعلومات ربما يعرضه للخطر في أبعاد قصته الصحفية.
الرقيب الذاتي.. عتمة الصحفي ضد أزمات مجتمعه
وفي تفسير أستاذ الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة هشام عطية لظاهرة الرقيب الذاتي، يقول لـ"مصراوي" إن الخطوط الحمراء لا تملك تعريفا واضحا، خاصة في الصحافة المصرية التي تملك نطاقا متسعا وتجارب وأنظمة صحفية مختلفة، وأن الضوابط الصحفية التي يقدمها الصحفيون لأنفسهم لا تشكل شيئا واحدا، فمنها الطوعي ومنها الكراهة، مثل الايدولوجية، ومنها التجاربة السابقة، والظروف الشخصية، وغيرها، ويرى عطية أن أحيانا يكون صحفيان في نفس المطبوعة لكل منهما خطوطه الحمراء الخاصة به، فكل يدرك الخطوط الحمراء من معسكره، لكن الأزمة تحدث فعلا إذا تلاقت الخطوط المهنية المتعلقة بالمناخ العام وإدارة الصحيفة والسياسة التحريرية مع الخط الذي يضعه الصحفي لنفسه.
ويضرب أستاذ الإعلام المثل على الرقيب الذاتي بأن في المناخ السياسي المنفتح والصحافي الحر، يظهر الصحفي المهني ويقدم نوع من "الإحراج" لصحفي آخر يضع قيودا على ذاته، وتبدو المحاولات المهنية واضحة تكسر "طوق" النفس، لكن في المناخ الضيق والحرية الهامشية، يعلو الرقيب الذاتي، خاصة أن الصحفيون لديهم تطلعات وحسابات سياسية وإقتصادية وإجتماعية، ربما تصل بالصحفي أن يضع خطا ليس بالأحمر فحسب لكن ربما باللون الأسود والبني، وتصبح الرقابة بداخله نوع من "العتمة" المضللة للقارئ، التي لا تجعل الصحفي لا يرى المشكلة أو الأزمة بالأساس.
وفي منشأ الرقيب الذاتي بداخل الصحفيين، يرى عطية إن الصحفي في مصر - بعكس كثير من دول العالم- لا يتحدث عن نفسه بالأساس، ولا يقدم رؤيته الذاتية في المحتوى إلا قليلا، رغم أن المساحة الصحفية هى بالأساس "حديث النفس"، ونقل أزمات الناس بعينه ورؤيته، مضيفا أن حتى نقل ما يحدث من أزمات يختلف فيه الصحفيون، من أصحاب ضمائر إلى تابعين، والصحفيين في هذا "مراتب".
الرقيب الذاتي جزء من نسيج المجتمع وليس الصحفي فقط
ويرى أستاذ الصحافة أن الرقيب الذاتي لا يمكن أن يوضع كاهله على الصحفي وحده، وألا يحمل الصحفي - الذي هو مواطنا مثل غيره في نهاية المطاف- بكل الأزمة، فهناك نمط أبوي يُربى عليه الناس في المجتمع بدءا من البيت والمدرسة ثم في الجامعة ومجال العمل، ثم ثقافة مجتمعية حاكمة تضع خطوطها بداخل الصحفي، بجانب الظروف المهنية الضاغطة والاقتصادية التي تقلل من بدائل أكثر حرية للصحفي، وربما يكون العامل الاقتصادي أقوى من العامل السياسي، وأيضا وسط مناخ مقيد للتجربة الصحفية المصرية، والذي يطرح سؤالا حين الحديث عن الرقيب "من أكثر تقيدا المجتمع أم الصحفي؟".
وفسر عطية أن الحسابات التي يضعها الصحفي لنفسه قام بها الأنبياء أنفسهم، إذ أن ذلك لا يعد عيبا، لكن أيضا الرقيب الذاتي يظل عنصرا فرديا بسيطا في مواجهة رقابة أكبر مثل الرقابة التي تُفرض على المناخ الصحفي، والحريات الأقل، والهامش الضيق من الحصول على المعلومة، الذي إذا توفر للصحفي، يصبح في مواجهة "الخطوط الطبيعية" للمهنة، وهى الخطوط القانونية والأخلاقية.
اقرأ باقي موضوعات الملف:
حقيقة اغتيال ''مبارك'' والتعذيب.. حين كان السبق الصحفي لـ''مدونة''
حسام السكري: نقابة الصحفيين لها وقفات شجاعة.. والسلطة تحتكر كل المنابر (حوار)
''مصراوي '' يحاور أحد مؤسسي حملة ''الرقة تُذبح في صمت''
أعمال صحفية غيرت مجتمعاتها.. أثر الإعلام ''يٌرى''
سيرة أول شهيد للصحافة في الثورة.. السلطة الرابعة ''مجابتش حق ولادها''
بالفيديو والصور: إعلاميون بلا ''إعلام''.. كيف يقتل أبناء المهنة المصداقية؟ (تقرير)
وصيفات (صاحبة الجلالة) يروون لـ''مصراوي'' كواليس مغامرات كسرن فيها حاجز الخوف والخطر
مؤمن قيقع.. وقع خطاه بـ ''كرسي متحرك'' يُغضب ''إسرائيل'' (حوار)
فيديو قد يعجبك: