بالصور: "الموناليزا السورية".. هل تختصر الموت في لوحة
كتبت-دعاء الفولي:
أمسك حسام علوم بفرشته، فيما طُبع المشهد بعقله أولًا؛ أخذ يفكر أن تلك السيدة ربما كانت تُحضر الطعام لأولادها، تسمع أصوات القصف فيقتلها القلق، تتمنّى أن يعودوا من الخارج سالمين، وفي الأعلى ثمّة طيار، يرمي صاروخًا قاتلًا، ضغطة زر واحدة ويتحقق له مراده، في ثوان تخترق القذيفة منزل السيدة، التي ما عادت تسمع سوى طنين أذنها، لون الكون صار أبيضًا، التراب يخنقها والدم يخرج من رأسها، تنهض من وسط الركام، تحاول استنشاق الهواء النقي، فلا تجده، وفيما تستمر بالمحاولة التقط أحدهم صورتها؛ فانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، ليرسمها "علوم" بألوانه، فكانت صورة مرسومة للسيدة هي صرخة الفنان السوري ضد ما يحدث بمدينة حلب.
لم يكن يخطط "علّوم" لتلك الصورة تحديدًا، محرك البحث على الإنترنت قاده لصور أخرى عديدة "لكن حسيت إنه هاي الصورة كأنها أم ووطن.. هي سوريا ياللي بتحاول تعيش ومش عارفة"، منذ رآها التصقت بذهنه، فلم يتردد كثيرًا، تسمّر أمام اللوحة عشر ساعات حتى أنهاها، كان يريد أن يطلع عليها النهار كي يرى وقع الضوء الطبيعي على ألوانها الدموية.
عقب ساعات من نشره إيّاها غزت اللوحة مواقع التواصل الاجتماعي، تلقى الرسّام ردود أفعال واسعة "البعض قال لي إنها بقت أيقونة لما يحدث ضد السوريين"، آخرون أطلقوا عليها لقب "سورياليزا" أو الموناليزا السورية "عملوا هيك عشان العقل الجمعي يعرف الموناليزا الشهيرة فيمكن الاسم يلفت نظر العالم للي بيحصل"، لعل ذلك الانتشار هو ما أسعد "علوم"، فإذا كان كل شخص يوثق الجرائم بطريقته "فانا برسمها".
ثمة فرق بين الصورة المأخوذة بالكاميرا والمرسومة، في الأولى يبدو اللون الأبيض مسيطرًا بسبب غبار الركام، غير أن "علّوم" قرر أن يضع فلسفته باللوحة "الدم هو المُعبر عن حال سوريا اليوم"، كما أن الفنان المُقيم بتركيا لا يُفضل اللون الأبيض بالصورة الأصلية "هيك بيفكرني بمساحيق التجميل ياللي بيحطها العالم عشان يبين إنه متعاطف مع قضيتنا بس ما بيعمل شيء، اللون الأبيض بيخفي حقيقة المجتمع الدولي القذرة"، رغم ذلك حاول "علّوم" البحث عن مُصور الصورة ليربت على كتفه، ويشكره بأسى، إذ لا يعلم الفنان السوري كيف تحمّل صاحب اللقطة كل ذلك القدر من الهلاك.
"من وقت ما خرجت من سوريا ماخدتش فلوس مقابل اللوحات"، يرضى "علّوم" بذلك، بل ويبتعد عن أي مقابل مادي كي لا يُقال انه يتاجر بالقضية، إذ يعمل كمهندس للديكور وبجانب ذلك يرسم.
يوثق "علوم" النوائب المتتابعة بريشته منذ ثلاث سنوات؛ يحكي عن البحر "ذلك الوحش ياللي بيبلع آلاف السوريين عشان يهاجروا عن طريقه"، أو يرسم ديكتاتورًا يقتل شعبه "ويعبر عن كل الطغاة مش بس واحد"، يصنع خطوطًا عن الأطفال السوريين وما يواجهوه، لكن وسط ذلك لا يُلاقي "علوم" وفنانون آخرون إلا فرص قليلة لعرض أعمالهم، إذ يذكر الرسّام لوحة "ملائكة سوريا"، التي بدأت واعدة وانتهت إلى لا شيء.
في عام 2014 انكبّ "علوم" برفقة اثنين من الرسامين لمدة 43 يوما، ليرسموا "ملائكة سوريا"، موثقين فيها أسماء أكثر من 12 ألف طفل وطفلة سورية قُتلوا، وقد وصلت مساحة اللوحة إلى 450 مترًا، ليتم تصنيفها الأكبر في العالم "عملنا على الفكرة لمدة شهرين قبل التنفيذ ثم نفذناها في بروكسل"، ظنّ الفنانون الثلاثة أنه سيتم عرضها عمّا قريب "لكن لأنها ما بتخدم مصالح حدا متعرضتش"، وحتى الفرص التي جاءتهم لعرضها كانت ممسوسة بتسييس القضية. وعقب مفاوضات مُرهقة، مازالت تستقر اللوحة في مدينة بروكسل إلى الآن.
يرسم "علّوم" لأن الريشة تجعله صادقًا، ينشر لوحاته لأنه يثق أنه ربما بعد مائة عام أو يزيد، حين تنتهي المأساة، سيشاهد أحدهم تلك اللوحات ويعرف أن سوريا كانت تُستباح، بينما يلاحق العار المجتمع الدولي الصامت على ما يُفعل بها.
فيديو قد يعجبك: