إعلان

"رحلة عُمر".. عدسة شاهدة على اللحظات الفارقة للشعوب والنجوم

07:25 م الإثنين 05 ديسمبر 2016

عدسة شاهدة على اللحظات الفارقة للشعوب والنجوم

كتب- أحمد الليثي وإشراق أحمد:

أوشك حسام دياب على الانتهاء من التحضير لمعرضه حين أتاه المصاب؛ توفت الأم، توقف الزمن، اهتزت نفس المصور الشاب، تأجيل الحدث المهم المنتظر ما عاد فيه شك، إلا أن درسا جديدا علمه إياه والده حينما قال له "هتعمل المعرض.. هو ده قدرنا مع المهنة".

ابتلع المصور الصحفي الحزن بينما يقف بين صوره المعروضة، واصل بعدها مسيرة حافلة؛ أنشأ أقسام تصوير في عدد من الصحف المصرية والعربية، ترأس شعبة المصورين الصحفيين لأعوام، وتتلمذ على يده العديد من محترفي الصورة، لكن حاجزا نفسيا ظل بينه وإقامة معرضًا ثانيًا طيلة 26 عاما حتى الشهر الماضي.

في افتتاح "بيت الصورة"، المكان الذي أقامه المصور الشاب أحمد هيمن ليكون قبلة المصورين، عادت صور دياب لأجواء المعارض. 26 صورة حملت "رحلة عمر"، وكذلك كان عنوان المعرض، الذي استمر لنحو ثلاثة أسابيع، طافت فيه الصور بين المشاهير، ورحلات داخل مصر وخارجها، أعادت إحياء الزمن، الذي ما كانت فيه اللقطات سوى نبضة بقلب المصور القدير.

1

التقى دياب بالعديد من المشاهير، لكنه لم يكن يتعامل باستسهال أو انبهار زائد، وإنما يدرس الشخصيات، يتقرب إليهم، يُشرِح ملامحهم داخليا حتى تخرج الصورة في أبهى مظهر.

- قولي إيه اللي بيشدك في التصوير

* أنا بحب الناس

- وإيه أكتر حاجة بتشدك في الناس

* روحهم

- (تنهيدة) بس ده محتاج وقت كبير

* أقولكِ تعالي أصورك ونشوف

كان ذلك بداية حديث دياب مع سيدة الغناء فيروز، من داخل "مونتجمري سويت بفندق مينا هاوس"، بينما يظهر الهرم في خلفية المشهد، خلال زيارتها لمصر استعدادا لحفل عام 1989. حينها طلبت من مدير أعمالها أن يرافقها مصور صاحب خبرة.

الطريف أن جارة القمر، لم تكن ترضخ بسهولة للتصوير، لذا حين استجابت لدعوة دياب، أعطته ظهرها، لكن صوت التقاط الصور لم يتوقف، وظلت الكاميرا على عين المصور دون حراك، فالتفتت السيدة وهي تقول بضحكة تلقائية "شو بتعمل"، لتخرج صورة فيروز الأولى بعين المصور الشاب، وتصبح اتفاق غير مشروط تحتفظ فيه عدسة دياب بالمسئولية عن طلة فيروز البهية خلال تواجدها بمصر، وهو ما تطور فيما بعد لصداقة بدأت بـ"تكة" كاميرا.

2
في سنته الدراسية الأخيرة بكلية التجارة جامعة عين شمس، لمع اسم مصور شاب يدعى حسام دياب. لم يكن الأمر مرتبطا بسيرة والده المصور الخاص للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ولكن حين صنع صورة صحفية أشاد بها أساتذة صاحبة الجلالة.

كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي حين وقع هجوم ضاري من الفئران على المحاصيل الزراعية. حينها قرر عمدة إحدى قرى الشرقية ترغيب الأطفال للمشاركة في المقاومة لقتل الحيوانات القارضة، مقابل قرش صاغ لكل رأس فار. وقتها اقتنص دياب صورة لأحد الأطفال، بينما اصطاد "ثروته" برأسين من الفئران.

3

أكثر من 30 سنة مرت، ولا زال دياب يحفظ الفضل لرفاق المهنة وأساتذتها، فيدور في أرجاء معرضه وهو يحكي ببراءة لا تعرف الفتور عن الطريقة التي أخبره بها مفيد فوزي أن يستعد للقاء فؤاد المهندس، وصوت ياسر أيوب قبل لحظات من مقابلة البابا شنودة، وضحكة صلاح جاهين التي ترج منزله بالمهندسين وهو يسدي النصائح لسعاد حسني وأحمد زكي أثناء كواليس التحضير لمسلسل هو وهي، ونداء الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات له بلقب "المصور الفدائي".

العديد من الصور لم تلمسها عينٌ من قبل، بعضها اطلع عليه هَيمن بحكم عمله مع دياب وتلمذته له، فقرر أن يبدأ مشروعه بمعرض لأستاذه "خاصة أننا عندنا أزمة في التوثيق.. فترة الستينات والسبعينات صور مصر للأسف أغلبها لأجانب رغم أننا عندنا قامات في التصوير زي أستاذ حسام" يقول هَيمن.

4

قبل لحظات من دخول فؤاد المهندس على خشبة المسرح، يختلس نظرة من "الكالوس" على جمهور مسرحية هالة حبيبتي -عام 1993. رغم سيرة الكوميديان الفنية، التي يصرخ المشاهدين ضحكا بسببها، لكنه بعيدا لا ينفرج ثغره بابتسامة إلا قليلا، ولا يكون صاحب "الإفيه" طيلة الوقت، حتى ظن البعض فيه التعالي. "حبيت أجيب لقطة له بعيدة عن النمط السائد"، يقول دياب وهو يوضح أن حقيقة المهندس تتسم بالحزم، والصرامة بشخصيته، غير القابلة للهزل موضع الجد، فلديه أوقاته المقدسة كما يقول "دي لحظة بتاعتي أنا وربنا سبحانه وتعالى والمسرح".

5

التقط دياب خيط شخصية المهندس، لم ينبهر بالنجم، ولم يسوقه حبه له، للتسرع على ضغط الزر والتقاط الصور، ظل لأيام يأتي للمسرح، تتابع عينه الكوميديان الجاد خلف الكواليس، حتى استقرت العدسة على لحظتها المقدسة هي الأخرى.

كان هَيمن على علم بالحاجز النفسي بين دياب وإقامة المعارض، فضلا عن "زحمة" الشغل ومرور الوقت الذي حال بين إقدامه على هذه الخطوة. "قلت له مجرد تديني الصور ومتشغلش بالك بأي شيء تاني" يحكي المصور الشاب عن جلسة إقناع أستاذه، مشيرا أن الصعوبة لم تكن في موافقة دياب، بل في 480 صورة صارت مهمة هيمن أن ينتقي منها، ليخلص إلى تقسيمها أربعة أركان: رحلات، مصر، صحافة، ومشاهير.
حسام دياب خلال إحدى رحلاته في العراق صورة6
التصوير لدى دياب ليس مجرد عمل، يكتسب منه الرزق، بل قطعة من روحه، يسأله شاب متيم بصوره خلال المعرض "إزاي الواحد ممكن يعمل حاجات حلوة كدة"، فيلتقط المصور الكبير الحديث بجدية وهو يشرح "المصور مش ألة.. ده كيان وثقافة وتاريخ وقراية، قُرب من الناس وإحساس بيهم، اللي مبيعرفش يدوب في البشر مش هيصورهم كويس".

بعد وفاة ابن توفيق الحكيم، انتكس الأديب الكبير، تمكن منه الحزن، وتداعى عليه المرض حتى لازم المستشفى لأول مرة بحياته، حينها ذهب دياب لالتقاط صورة للحكيم لكنه تراجع؛ قلت الزيارات عن القامة الأدبية، وبات عليه مواجهة لحظات الوهن وحيدا، فقرر دياب أن ينحي الكاميرا قليلا حتى يحين ميعادها "كنت بروح له كل يومين وانقله الأخبار" يستعيد دياب ذكريات أخر صورة التقطت للحكيم قبل أيام من رحيله في يونيو 1987.

7

في اللحظات الأولى لافتتاح المعرض لم يكن حسام دياب وحيدا وسط أعماله، بل التف حوله عدد من شباب المصورين أصحاب الصيت الذائع، غير أنه لم يزل كبيرهم الذي علمهم السحر.

8

للبابا شنودة بطريرك الكرازة المرقسية، وبابا الإسكندرية، آلاف الصور كونه واحد من أبرز الشخصيات الدينية حول العالم، فيما يظهر في معظمها بشكل رسمي أو خلال المراسم الدينية، لكن صورة وحيدة شكلت تحولا صاغها دياب بعينه. "وقتها زرناه في وادي النطرون أنا والكاتب الصحفي ياسر أيوب وكان البابا شنودة شخصية بديعة جدا فقررت تكون صورتي عنه مش عادية".

الصورة التي سجلها دياب لشنودة وهو يتريض في الصباح أضحت أيقونة في بيوت مسيحيي مصر. "في صديق كان بيقول لي مش كنت تبيع الصورة كان زمانك مليونير" يحكي دياب والضحكة لا تفارق وجهه.

9

شهران استغرقهما دياب لانتقاء مجموعة صور من مسيرة عمله طيلة 40 عاما، فيما تكثف جهد "هيمن" خلال نحو أسبوع لاختيار الـ26 صورة.


ترك دياب جريدة الأهرام طوعا في أوائل الثمانينات، لكن أيام قليلة فصلته عن العودة مجددا لممارسة هوايته المفضلة بصيد لقطات مميزة، حين هاتفه صديقه عماد الدين أديب ليطالبه بتأسيس مكاتب تصوير خاصة بجريدة الشرق الأوسط، وبدأت رحلاته المكوكية.

خاصم المصور الصحفي النوم إلا لثلاث ساعات يوميا، وأخذت الكاميرا كل همه؛ يغطي المجاعات في السودان، ويشارك في حربي الخليج الأولى والثانية، ويرصد المهمشين على حدود مصر في سيوة وسيناء، ويغوص في ثقافات تبدأ من قاطفي عنب اليمن، ولا تنتهي عند حدود المعارض الفنية بزيوريخ.

10

تتوالي الرحلات والمغامرات، ولا يترك دياب مبدأه، الإنسان أولا، حفظتها عدسته عن ظهر قلب، ففي خضم المجاعات والحروب، ينزوي المصور الكبير في ركن قصي عن كل ما تتوقع العين. "صور الدم والنزاعات بتنقلها النشرات وتهتم بها الساسة لكن اللي بيبقى هو حياة البشر" يتحدث دياب عما انتهجه من إخراج تفاصيل معيشة المعذبين في خفة لا تخلو من الصدمة.

انتظر دياب لساعات، تطوف عينه بين وجوه اعتصرها الجوع، لكن لم تمنعها الحاجة عن الألفة فيما بينهم، وأمام إحدى الخيام، بينما تلتف الأسر حول حطب النار؛ لطهي الطعام الممنوح من المعونات الغذائية سجل دياب لحظة من سنوات المجاعة الإفريقية.


وفي وسط سيناء اختصر دياب الزمان والمكان، والتكرار الباهت للاهتمام بأهل سيناء، وأوقف كل شيء عند طفل يسير بخطواته الصغيرة لنحو 10 كيلو متر يوميا للوصول إلى مدرسته، الواقعة في منطقة مترامية لا تختلف عن مكان بيته.

11

ولما بلغ المصور الصحفي باعا مع الكاميرا، كانت له لحظات مؤرخة، ممهورة ببصمة خبرة سنوات الاجتهاد والدأب؛ ففي داخل إحدى الكهوف بمدينة "يطا" كان لـدياب خطوة شاهدة على صمود الشعب الفلسطيني، فبعد محاولات تهجير الفلسطينيين من قبل المستوطنين اليهود بمدينة الخليل، عاش الأهالي داخل كهوف حتى لا يتركوا أرضهم مرتعا للمحتل.

12

الإعجاب لم يُغادر المترددون على معرض "رحلة عمر"، تنتهي جولتهم بينما اعتقد البعض أن الأعمال لمجموعة من المصورين وليست لشخص واحد "في اللي كان فاكر أن المصور أجنبي". ما حملته الصور من مشاعر كانت السبب في رد الفعل ذلك كما يقول هيمن: "الصور مكنتش مجرد توثيق كانت بتحكي قصة".

13

تخطى عمر صاحب السيرة المصورة 60 عاما، لكن عدسته لاتزال في صباها، يؤمن دياب أنه لا يوجد سن لتقاعد الصحفي، وأن الركون إلى التاريخ والمناصب حائط مائل، لذا لا ينقطع بحثه عن لقطة مميزة، يهرول إليها بخطى صبورة، مرتديا حذائه الرياضي، ليكتشف المزيد عن تفاصيل البشر.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان