صيدلي مصري يروي تفاصيل رحلته في جنوب السودان (حوار)
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
كتبت-هدى الشيمي ودعاء الفولي:
شابٌ يذهب كل صباح لعمله بإحدى شركات الأدوية، في المساء يُقابل أصدقاءه، يعود للمنزل كي ينام ويستيقظ في اليوم التالي ليلحق بالعمل. دائرة مُفرغة ظل رائف عزيز يدور فيها منذ تخرجه في كلية الصيدلة عام 2010، حتى انقلبت موازين الأمور منذ أقل من عام. بعدما جاءته فرصة للسفر والعمل في جنوب السودان، لدى منظمة "أطباء بلا حدود".
عالما بما سيواجهه هناك ذهب عزيز. فضّل التطوع على البقاء داخل دائرة الأمان الوظيفي. قبل السفر قرأ عمّا يحدث فيها من اقتتال بين الشمال والجنوب، ووجود متمردين على حكومة الدولة الأفريقية الوليدة، وعن حالات كثيرة ضربتها حُمى الملاريا والإسهال الدموي، وأطفال يُباعون بأسواق للعبيد، غير أن صعوبة تلك الأشياء توارت مع تواجده في قلب الحدث على أرض أحدث دولة في العالم؛ إذ أيقن أن الخطر يكمن فقط في الخوف من التجربة.
لم يكن جنوب السودان خيار عزيز، عُرض عليه هناك العمل لمدة ستة أشهر عقب مروره ببضعة اختبارات في المنظمة "وبعد تقديم عرض العمل إلى بقى لي حق القبول أو الرفض". سخرية الأصدقاء لاحقت الصيدلي بسبب قراره "قالولي انت مش هتستحمل".
في 2016 بدأت رحلة عزيز للأرض الغريبة، حيث استقر الفريق على أطراف قرية بسيطة، يتحركون داخلها برفقة أحد السكان، وذلك يحدث تحديدا في أيام الآحاد من كل أسبوع "كانت القرية فيها سوق مبيتباعش فيه إلا بامية وطماطم لونها أصفر.. مكنتش عارف إنها طماطم أصلا"، يقول عزيز ساخرا، قبل أن يحكي عن شيء آخر اعتاد رؤيته هناك "أزايز كوكاكولا هي الوحيدة اللي بتتباع في القرية.. مش عارف بيجيبوها إزاي"، فيما عدا ذلك فكل المواد الخام المُستخدمة في الأكل، تأتي بالطائرة كل أسبوعين أو شهر.
في جنوب السودان تجري الأمور سريعا، العمل يستمر لما يزيد عن 12 ساعة يوميا، ما ينبغي تعلمه في شهر، يجب إتقانه في يومين، لذا شدّ أفراد الطاقم من أزر بعضهم البعض، إن لم يكن بشكل مادي، فبالاحتواء والإنصات.
سمع عزيز عن المعيشة صعبة في جنوب السودان، حتى لمتطوعي "أطباء بلا حدود"، إلا أن معايشتها في الواقع ظلت أمرًا آخر. أول ما قابله عند وصوله هو المطار الصحراوي، والحرارة التي تصل أحيانا إلى 50 درجة مئوية. غير أن مسكن الشاب ظل أصعب مما تخيل، حيث كان عبارة عن أحد الأكواخ الصغيرة التي تُسمى "توكول" ويحيط بها وبمبنى الإدارة سور واحد. بداخل كل كوخ يوجد سرير حديدي، دولاب، ومروحة "قالولنا خلوا بالكوا منها عشان لو باظت الإمدادات هتاخد وقت على ما نجيب تاني". بجانب أماكن السكن، ثمة غرفة متسعة بها طاولة طعام تسمح بجلوس 15 فردا أو أكثر، وبها تلفاز أمامه أريكة يجلس عليها المتطوعون عقب يوم العمل، بحثا عن تسلية بسيطة في صندوق الدنيا.
عاهد الصيدلي نفسه أن يستفيد من التجربة قدر المستطاع. صار ضيق الكوخ الذي يسكن فيه تحديًا تعلّم من خلاله ابتكار حلول لحفظ أشياءه بشكل منظم، لم يعترض على عدم تنوع أصناف الطعام، ففكر في طرق أخرى تُقرب له روح الأكل المصري "اللحمة اللي كانت بتيجي مكنتش بحبها أوي فاضطريت اتعلم الطبخ عشان أعملها بخضار يضيع الطعم شوية"، إلا أنه افتقد بعض التفاصيل في مصر، على رأسها "أكلة معمولة حلو"، أو جلسة يأنس بها إلى من يحب من أصدقائه أو عائلته؛ فاستعاض عنها جزئيًا بصُحبة أصدقائه الجدد من الجنسيات المختلفة التي يعمل معها.
خلال رحلة العمل احتك الشاب بالسودانيين المحليين، بحكم عمله كمسؤول عن الصيدلية أو المخزن الطبي. وجدهم مختلفين عن المصريين حيث أنهم يتسمون بالهدوء والخجل "ده بالإضافة لظروف الحياة شديدة الفقر" يقول عزيز، مؤكدا أنه شعر بالأسى نحو السكان "كنا بنعاني من الحرارة واحنا داخل المباني ما بالك بالسكان هناك."
صاحب عزيز الشعور بالخطر في أحيان كثيرة، خاصة مع سماع أزيز الرصاص في القرية المحلية المجاورة، إلا أن توتر الأجواء في القرية واختلاف بيئات أعضاء البعثة، لم يدفعهم للتأفف، لأنهم تعاملوا مع الأمر وكأنه وثيقة أو عقد بينهم وبين المنظمة والمكان، أنجزوا مهامهم الطبية، وفي نفس الوقت تتولى الجهة المسئولة حمايتهم والحفاظ عليهم إذا حدثت مشكلة، فيقول: "في المجمل كانت فترة تعليمية مكثفة، 6 شهور تعلمت فيهم اللي ماتعلمتوش في 27 سنة".
التجول في مهبط طائرات بالقرب من مقر المنظمة ومشاهدة الغروب هناك صار هو فُسحة الشاب الوحيدة وزملائه، وإذا أراد أحدهم الذهاب له عليه اصطحاب شخص آخر "بس أكتر حاجة مُضحكة إن المطار نفسه يبعد عن المقر دقيقتين مشي.." كما أن الأبواب كانت تُغلق قبيل السابعة لاعتبارات الأمن.
علم الصيدلي أنه نجح في اختبار رحلته الأولى بآخر شهر من مُدة البعثة، عندما نشبت معركة بين أهالي البلدة الأصليين واللاجئين القادمين من السودان، حينما قرر المسؤول عن البعثة إخراج 15 شخصا من زملائه وإرسالهم إلى العاصمة جوبا، حتى يتبقى عدد محدود يكون لديهم فرصة ركوب الطائرة المخصصة لمغادرة المكان إذا حدثت كارثة ما. كان هو بين الباقين، فشعر بالفخر، سائلا مديره عن سبب تركه في القرية، لُيخبره الرجل بأنه لديه قدرة هائلة على التكيف مع الأمور "قالي انت بتتميز بمرونة شديدة، سهل يكون لك رد فعل سريع مع تغير الأحداث والظروف إللي حواليهم".
ظلت الأيام العشرة الأخيرة عسيرة على عزيز، أصيب بالإرهاق لعدم حصوله على كمية كافية من النوم لارتفاع حدة الأحداث في القرية المجاورة "المسؤول كان بيقولنا خلي الراديو جنبنا باستمرار عشان لو حصل حاجة هينقلونا لمكان بعيد مجهز لحمايتنا من الخطر" .
بعد عودته من السودان استقبله أهله كالأبطال، وصار تركيز عزيز على الاسترخاء وممارسة حياته الطبيعية "أشغل التكييف، أنام في سريري لأن اللي هناك مرتبته متعبة جدا". في المقابل كثرت العزائم وطالت مآدب الطعام، حتى يستعيد ما خسره من وزن "خسيت في جنوب السودان 15 كيلو".
ذكرى سكان جنوب السودان لم تفارقه، ما يزال يحفظ في قلبه احتياجات الناس وعجزه أحيانا عن تلبيتها "مفيش حاجة مش محتاجينها، الناس هناك عايزين حياة"، فهم يفتقرون للتغذية الصحية والمياه النظيفة، والرعاية الطبية . يتذكرالشاب مدى افتقار الأطفال لأبسط وسائل الترفيه فيلجؤون إلى اللعب بالطين قرب برك تجمع الماء ما يعرضهم للإصابة بالملاريا.
"في الرحلة عرفت أنا قد إيه بني آدم قوي وعمري ما كنت فخور بنفسي قد ما أنا فخور بيها بعد التجربة دي". هذا ما لم يكن سيدركه الشاب إذا استمرت حياته في القاهرة كما هي. بعد ثلاثة أشهر قضاها الصيدلي في القاهرة قرر مواصلة التطوع بالذهاب إلى بلد آخر يعاني من الأزمات في قارة آسيا.
فيديو قد يعجبك: