"يا ليلة عودي تاني".. النوبة تغني لـ"قافلة العودة" من العاصمة
كتب- محمد زكريا:
داخل كشك صغير بحي المهندسين بالجيزة، يتبادل عبد الرحمن حسن الأحاديث مع زبائنه، لهجة تدل على وجهته، يسأله أحدهم عن موطنه الأصلي، فيرد الشاب سريعًا "النوبة"، فيما يعلو في الخلفية صوت يُخرجه جهاز "لاب توب" صغير. يدندن الشاب العشريني كلمات الأغنية في تمني "يا ليلة عودي تاني"، يسرح قليلًا، فيما تجوب حكايات الأهل عقله الشاب.
قبل أيام، منعت قوات الأمن مسيرة نظمها مئات النوبيين، في طريقهم إلى قرية خورقند النوبية، الواقعة ضمن مشروع الـ1.5 مليون فدان بتوشكى، احتجاجًا على طرح أراضي القرى النوبية القديمة للاستثمار ضمن المشروع. استمر اعتصامهم بطريق أسوان- أبو سمبل على بعد 200 كيلو متر من مدخل القرية نحو يومين، قبل أن يفض المحتجون تجمعهم بعد وعد حكومي بالنظر في مطالبهم المشروعة.
في وقت لا تزال الأزمة لا تجد طريقًا للحل حتى اللحظة، يصر المحتجون على مطالبهم بالعودة لأراضيهم التي نزحوا منها منذ ستينيات القرن الماضي، وسط حالة تضامنية اتسعت رقعتها لتصل إلى قلب العاصمة؛ حيث يقطن آلاف ينحدرون من تلك البقعة الواقعة أقصى جنوب البلاد.
يستمر "عبد الرحمن" بعمله اليومي، يُتابع التطورات لحظة بلحظة، يسأله وافد عن رأيه في مُطالبات "قافلة العودة النوبية"، بينما تعلو كلمات الشاعر الصعيدي عبد الرحيم منصور بصوت مطربها النوبي محمد منير "لفو بينا، قالوا لينا على المدينة، لما جينا، التقينا، كل شىء فيها ناسينا"، قبل أن يحكي البائع الصغير عن ارتباطه الأصيل بالنوبة وتفاعل أسرته الشديد مع مطالب أهلها.
مع بداية الستينيات، أجبرت الحكومة عائلة "حسن" على النزوح من قرية أبوهور بالنوبة، وقت تنفيذ مشروع السد العالي. استقر جده في مركز كوم أمبو، غير أن ضيق العيش بالمركز الواقع شمال مدينة أسوان، دفع الجد للارتحال بعيدًا صوب العاصمة "أبوهور بتطل على النيل، كان فيها خير، لكن كوم أمبو صحرا".
من وقتها لم تنقطع أسرة صاحب الـ19 عاما عن زيارة النوبة مرة واحدة على الأقل كل عام، لذلك جاء تضامن الأسرة مع المطالب النوبية سريعًا.
شهدت النوبة عدة موجات من النزوح خلال القرن العشرين: الأولى في 1912 والثانية في 1933، مع تعلية سد أسوان خلال فترة الاحتلال البريطاني لمصر. وجائت الثالثة بين عامي 1963 و1964 أثناء بناء السد العالي خلال فترة حكم الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر.
ضعف متابعة الإعلام لقضية النوبيين، حسب "حسن"، دفع ساكن حي المعادي التوجه نحو منصات التواصل الاجتماعي لاستقاء معلوماته عما جرى، فكانت وجهته أحد تجمعات الشباب النوبي على إحدى صفحات فيسبوك تحمل اسم "فرسان النوبة"، إلا أن ذلك حمل داخل عقله دلالة وحيدة "لما وقفوا القافلة، الإعلام فضل ساكت، ساعتها حسيت إنها تعليمات عليا مش مجرد مسيرة وقفوها". نفس الأمر بالنسبة لتامر عبد الحميد الذي اعتمد بشكل كبير على "السوشيال ميديا"، غير أنه قرر التواصل مع الأهالي المستقرين بـ"كوم أمبو" منذ ستينيات القرن الماضي.
لم تختلف حكايات الأب لابنه "تامر"، عن غيرها من مئات القصص التي عاشها أهالي القرى المُهجرة "أبويا كان لسة صغير.. جدي حكاله أن قبل التهجير كانت البيوت بتترحل فوق الجبل، في المرة الأولى غرقت 8 قرى، والتانية غرق 10، لحد سد النوبة القرى كلها غرقت"، لذلك يتمسك صاحب الـ36 عاما بحق أهالي النوبة في العودة لأراضيهم.
في أغسطس الماضي، أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي، القرار رقم 355 لسنة 2016، الذي قضى بتخصيص 922 فدانًا مملوكين للدولة لمشروع تنمية توشكى، وهو القرار الذي انعكس على الشأن النوبي بجعل أراضي توشكى غير مخصصة بالكامل لإعادة توطين النوبيين. جاء ذلك بعد عامين من إصدار الرئيس القرار رقم 444 لسنة 2014، بشأن تحديد المناطق المتاخمة لحدود جمهورية مصر العربية، والذي أقره البرلمان بعد انعقاده في يناير من العام الحالي، وبموجبه تم تخصيص مساحات من الأراضي كمناطق عسكرية لا يجوز سكنها، وتضمنت هذه الأراضي 16 قرية نوبية.
رغم مرور عشرات السنين، لا يزال يتذكر "تامر" الحق التاريخي لأهالي المدينة الجنوبية في العودة لأراضيهم. إذ يستشهد ابن الأسرة التي تعود أصولها لقرية جرشا النوبية، بالاتفاقية التي وقعتها مصر مع منظمة اليونسكو في عهد "عبد الناصر"، والتي حصلت الدولة بمقتضاها على مقابل مادي من المنظمة الأممية، بشأن إعادة توطين النوبيين حول بحيرة ناصر، حسب حديثه.
اتفق حديث صاحب الـ36 عاما، مع نص المادة 236 من الدستور الحالي، المُستفتى عليه في 2014، على: "تعمل الدولة على وضع وتنفيذ مشروعات تعيد سكان النوبة إلي مناطقهم الأصلية وتنميتها خلال عشر سنوات، وذلك على النحو الذى ينظمه القانون".
قضية النوبة التاريخية، تُلصق بذهن "تامر" المقيم بحي فيصل بالجيزة، قصة عودة أبناء مدن السويس وإسماعيلية وبورسعيد إلى أراضيهم بعد انتهاء العدوان على مصر، لذلك يجد ضرورة تطبيق نفس الشيء فيما يخص حق النوبيين في العودة لأراضيهم المُهجرة.
حق العودة لم يغب أيضًا عن عزيز عثمان، الذي قرر عدم الاكتفاء بمتابعة الأحداث دون مشاركة تُذكر "أنا أهلي وأخواتي عايشين في النوبة لحد النهاردة، لكن أنا شغال في القاهرة من سنة 1998، عشان مكنش في شغل هناك"، لذلك قرر المشاركة في الفعاليات التي نظمها المقيمين من أهالي النوبة بالقاهرة.
أول أمس اجتمع "عزيز"، بأبناء محافظة أسوان في نادي النوبة العام بالقاهرة، تبادل الجمع الحديث عن الأزمة التي تعود أصولها للقرن الماضي، بعدها وقع المشاركون على بيان، تضامني مع أبناء النوبة، قبل أن يعلق النوبيون اعتصامهم صباح اليوم، بعد إصدار رئاسة الوزراء بيان يقر بالحقوق النوبية. في الوقت الذي يتواصل فيه "عزيز" مع أعضاء "قافلة العودة النوبية"، قرر رفقة أخرين أنهم في حالة "لو موصلناش لحل هننظم قوافل يشارك فيها كل النوبيين تضامنًا مع حق أهلنا".
فيديو قد يعجبك: