في محطة مصر: يا ليلة العيد "إلحقينا"
كتب-محمد مهدي ودعاء الفولي:
الخطوات سريعة، حقائب تمر على جهاز الكشف عن المعادن، عدد ضباط الشرطة كثيف، مدرعتان للأمن المركزي تحيطان بالمكان، وجوه حانقة لا تجد تذاكر عودة للأهل، أخرى فقدت الأمل في الحصول على مقعد آدمي، فاختار أصحابها خوض جحيم الدرجة الثالثة، طالما سيبيتون ليلتهم في كنف المنزل. آخرون لا يملكون ثمن التذاكر، قرروا "الشعبطة" على العربة، أو مراوغة ملاحظ القطار. عالم بأكمله امتزج داخل محطة مصر للسكك الحديدية برمسيس؛ غني وفقير، مسافرون من خارج المحطة أو من أبناءها، اُسر بأكملها، انغمسوا جميعا داخل المبنى العتيق، انتشروا على جميع الأرصفة للهروب من القاهرة، قبل عيد الفطر المبارك بساعات.
مستندا إلى شباك صالة الحجز كان محسن ضاحي ذو الاثنين وأربعين عاما، والذي يعمل مديرا لإحدى الشركات، ينتظر تذكرة ذهاب إلى قنا ككل عام، دون أن يجد "السنة دي كانوا بيقولوا إن القطارات هتزيد وفيه تذاكر تغطي عدد الناس، فين دة؟"، ثمن العودة لبيته لا يُمثل لصاحب الشركة عائق، غير أنه لا يريد الاعتماد على المواصلات العادية "سواقين الميكروباصات بيبقوا شاربين حشيش والطريق مش أمان"، لذا لم يبق حل أمام ضاحي، سوى البحث عن التذاكر المرُتجعة كي يشتري واحدة منها.
وسط "مولد" المحطة هناك قليلون يسعفهم الحظ، فهم لا ينتظرون قطارا أو تذكرة، بل تكفيهم ساعات الذروة تلك كي يبيعوا ما لديهم من بضاعة؛ هكذا حال حسام صالح، الشاب الثلاثيني الذي يمتلك عربة صغيرة على رصيف المحطة، يبيع فيها كروت الشحن، ضمن مشاريع مساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة التي تقدمها الدولة، إذ أنه مُصاب بضمور في الجانب الأيسر من جسده "فتره العيد حلوه.. زحمة ورزق كتير". يعمل صالح داخل المحطة منذ سبع سنوات، وفي فترات الأعياد يبيع كل ما لديه من كروت.
على عكس صالح الذي يبتهج بتلك الساعات، يكون الحاج محمد، الذي انزوي على مقعد متأففا حتى يأتي ميعاد القطار، "على باب الله" يعمل محمد في القاهرة كفواعلي حتى يعود كل فترة لأهل منزله بالمال اللازم للمعيشة، زاده في الرحلة من القاهرة للصعيد حقيبة صغيرة بها ملابسه، من الصباح يجلس على الرصيف كي يجد قطارا به مكان يتسع له "بفوت كذا قطر لحد ما ألاقي حاجة توديني".
وقف بدر رمضان جوار صديقه مصطفى محمد ينتظران قطار الدرجة الثالثة المتجه للصعيد، إذ يقطنان ببني سويف، لم يكن ازدحام القطار مشكلتهما الكبرى، بل العشرين جنيها التي يدفعانها دون ضمان للحصول على مقعد أو رُكن على الأرض، هما مجندان في الجيش، يذهبا إجازة قصيرة بين وقت وآخر، وحين يأتي وقت دفع ثمن التذكرة، يُبرز رمضان الهوية الخاصة بالتجنيد ليتم إعفاءه من التذكرة كاملة أو نصفها "بس الكمسري مبيرضاش يخصم رغم إني بوريله الكارنيه".
يحصل كلٌ من رمضان ومحمد على مُرتب 306 جنيها في الشهر، لذا فالقطار هو السبيل الأيسر "ساعات مبيبقاش معانا فلوس خالص"، لكنهما يستقلان القطار على أمل ألا يلاحظهما مشرف العربة، أو يقبل عذرهما، غير أن هذا لا يحدث دائما "فيه مرة مكنش معانا فلوس والملاحظ نزلنا قبل ما نوصل بكتير"، ومع ارتفاع أجرة الميكروباص ضعف ثمن تذكرة القطار، فلا يستطيع الشابان التخلي عن عربة الدرجة الثالثة.
على المحطة التي تتسع بالكاد لقدم، يُسمع صوت صافرة تأتي من بعيد، يظنه الجالسون قطارهم المُنتظر، تشرأب الأعناق لتنظر الأعين، بطيئا يقترب قطار مكون من عربة واحدة، فيما ينزل البعض على قضبان السكة الحديدية عابرا إياه مع حقائب السفر، غير عابئين بقدومه، يتقافزون سريعا من رصيف للآخر توفيرا لجهد عبور السلالم، بينما يفترش الأرض عائلات بأكملها، بعضهم لم يستطع تحمل درجة الحرارة والزحام فرقد نائما أو حاول التخفيف عن نفسه بشرب المياه والعصائر.
كغيره حاول محمد فرج شراء ثلاث تذاكر له وأسرته كي يسافر إلى المنيا، كان كل عام يبدأ البحث مُبكرا، لكنه فقد الأمل مع الوقت "بقيت أجي المحطة يوم السفر وأدور"، أحيانا يهتدي إلى الركوب في الدرجة الثالثة، مضحيا براحة زوجته وأولاده، فيما يصل إلى سمعه وجود تذاكر تُباع بسعر أغلى في السوق السوداء "مفروض الدولة تهتم شوية بإنها تزود عدد التذاكر في العيد" قال الرجل الثلاثيني، قبل أن يقاطعه أمين شرطة من المحطة قائلا: "يا أستاذ فيه تذاكر بس انت دوّر في المخصوص هتلاقي تذاكر على الشباك بس أغلى شوية"، يصل سعر الواحدة لمحافظة المنيا حوالي 97 جنيها، ويتم ضخها أوقات الأعياد لتغطية عدد المواطنين، غير أن فرج فضل انتظار أي قطار قادم على أن يعود إلى ازدحام الشباك مرة ثانية.
فيديو قد يعجبك: