إعلان

"مصراوي" يحاور الطفلة "ملاك".. أصغر أسيرة فلسطينية مُحررة

06:09 م الجمعة 17 أبريل 2015

ملاك الخطيب أصغر أسيرة فلسطينية تحررت من المعتقلات

كتبت - دعاء الفولي وإشراق أحمد:

الأسر سلاح يستخدمه المحتل مع أدواته الأخرى؛ لا لشيء إلا إمعانًا في إذلال أصحاب الأرض، يخترع لهم اتهامات، يحشو بها كتب القانون التي صنعتها دولة الاحتلال الإسرائيلي، ثم أوهمت نفسها أنها تتبع دين الديمقراطية، فيغار منها المغرضون، وعليها أن تدافع عن نفسها؛ لا تعبأ أكانوا نساءًا، شيوخًا، أو حتى أطفالاً، الجميع تحت رقبة الاحتلال حتى إشعار آخر، يقبع خلف أسوار الاحتلال - طبقا لإدارة الإحصاء بوزارة شئون الأسرى المحررين - 6500 أسير فلسطيني، بينهم 22 أسيرة، 16 نائبا و200 طفل.

كل عام وتحديدًا في السابع عشر من إبريل تحتفي فلسطين بيوم الأسير، تذكيرًا بهم؛ فاطمة البرناوي أول أسيرة، سامر العيساوي صاحب أطول إضراب في سجون الاحتلال، وغيرهم من المجهولين. كانت ملاك الخطيب واحدة منهم، تحررت في فبراير الماضي لتصبح أصغر أسيرة وطئت قدمها زنازين المحتل مؤخرا.. "مصراوي" في يوم الأسير يحاور الفتاة ابنة الـ14 عاما بعد قضائها شهرين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

رحيل شهيد وميلاد "ملاك"

للحظة الميلاد جلال وفرحة، رد الفعل عليها وإن اختلف يتشابه في بعض تفاصيله، من سعادة تغمر الوالدين؛ فوليدهم الصغير جاء للحياة بسلام، غير أن الحال لم يكن كذلك في بيت علي يوسف الخطيب بقرية "بتين" الفلسطينية – شرق رام الله؛ بينما كانت الانتفاضة الفلسطينية الثانية تدوي في الخارج عام 2000، خرجت إلى الدنيا المولودة الأخيرة للأسرة، ذهب الأب ليسجل ابنته في المستشفى ضمن المواليد "هنسميها دموع"، قالها تنفيذًا لرغبة الأم، فالاسم خير معبر عن حالهم، بعد استشهاد أحد أقاربهم، غير أن الممرضة رفضت "ما بقدر اكتب ها الاسم.. أبقى بظلمها"، فتدخلت الابنة الكبرى "دلال" - سُميت تيمنا بالمناضلة الفلسطينية دلال المغربي -، أوصت والدها أن يسميها "ملاك"، على اسم مدرستها التي تتخذها قدوة؛ فوافق الأب، وابتهجت الممرضة، وأصبح هناك طفلة جديدة تخرج من رحم الانتفاضة، انضمت لرموز أرض الصمود.

صورة 1

كانت "ملاك" تنعم بحياة مستقرة حتى 31 ديسمبر 2014.. انهت الصغيرة اختبار اللغة الانجليزية، المادة الأخيرة لها في الامتحانات، قبل أن تستقبل الإجازة، راحة نفسية تنتابها، تسير عائدة إلى منزلها، لم تكن تعبأ "ملاك" إلا بما يسر نظرها، تنتهز أي فرصة بيوم مشرق، لتتطلع إلى جمال الخضرة بالحقول، وهي تقاوم برودة طقس ديسمبر، لربما قطفت زهرة جميلة جذبتها، فتعود بها إلى دارها، لم يكن يعكر صفوها سوى وجود جنود الاحتلال "لما بشوفهم بمشي بطريق تاني حتى لا يضاقوني" كذلك كانت تفعل ابنة الـ14 عاما، دون علم أن مرورها يوما قرب حاجز عسكري لمحتل الأرض سيكون تهمة.

طفلة في مواجهة محتل

خطوات قليلة للفتاة، وإذا بعدد من جنود الاحتلال يهجمون عليها "ركعوني على الأرض.. كلبشوا إيدي.. غمضوا عيوني.. أخدوا يضربوني كفوف وشلاليط"، لم تعرف "ملاك" السبب، وما شفع صراخها لديهم، طالبوها التزام الصمت، حتى وجدت نفسها أمام محقق في مخفر شرطة "بنيامين" برام الله.

أسئلة تنهال علي الفتاة "ليش كنت هناك.. مين بعتك؟"، يخبرها أن الكاميرات رصدتها وهي تلقي حجارة وتكتب على الجدران، لا يبالي "الإسرائيلي" لعُمر الفتاة الصغيرة ولا للزي المدرسي الذي ترتديه، أغفل كل شيء، وعاملها كأنما مجرم لزم الضغط عليه للاعتراف بجريمته "استفدتي إيه لما ضربتي حجارة"، فيما لا تزيد "ملاك" عن "ما عملت ولا شيء"، حتى سؤاله عن مغزى الاستفادة فردت عليه بلسان ابنة أرض الصمود "وايش استفدتوا لما موتوا محمد أبو خضير؟"، كان مقتل الفتى الفلسطيني مر عليه شهور، وعلى إثره تكبدت غزة حرب لقرابة 23 يوم هي الأشد منذ الاحتلال.

ورقة وضعها المحقق الإسرائيلي أمام "ملاك"، طالبها أن توقع عليها، سطور مكتوبة بالعبرية نظرت إليها الصبية، ببراءة طفلة رفضت أن توقع قبل إعلامها بما تحويه الورقة، لكن الكذب شيمة المحتل أبدا "قالي وقعي عشان أهلك بيستنوا فيكي تحت"، غير أنهم أخذوها إلى غرفة، ظلت بها وحيدة حتى وجدت نفسها مكبلة، مصحوبة في ظلام الليل إلى سجن "هَشارون".

عقب القبض على الفتاة ذهب الأب إلى مجلس البلدة فعرف الخبر؛ ثم إلى مكان التحقيق الذي تم اصطحاب ابنته له لمعرفة الاتهامات أو محاولة توكيل محامي، باءت كل المحاولات بالفشل، ما كان بيده حيلة سوى الانتظار بعد أن حاول إقناعهم أن ابنته لن تؤذي أحدا "التهم كانت إشي مسخرة"، في النهاية قالوا له "هنتصل فيك نقولك على أي سجن راحت".

صورة 2

أصغر أخواتها البنات هي "ملاك"، هن أربع فتيات ومثلهم من الأولاد، يتندر الأب "انا والأم اتفقنا نقسمهم بالنصف"، كانت الفتاة ذات الأربع عشر عاما "دلوعة" المنزل، ما إن تطلب أي شيء حتى يُحضر لها، كيف لها إذا أن تذهب فتعتدي على جندي إسرائيلي مدجج بالسلاح، أو تقطع شارعا، أو تُلقي حجرا على مدرعة جيش لا يؤثر فيها الرصاص، على حد قول والدها.

60 يوم في السجن

وحشة، غربة، خوف، وبينهم سؤال "ليش أنا هون؟" يراود نفس "ملاك" داخل الحجز الانفرادي الذي باتت فيه أول ليلة أسر بينما تتذكر أهلها، لم تلبث أن أغمضت جفناها حتى لاقت قاضي محكمة باليوم التالي وحيدة؛ لأن الاحتلال لم يخبر أباها بميعاد المحاكمة إلا متأخرًا، لتعود إلى ظلمات السجن مرة أخرى، وبعد قرابة خمس أيام، وقفت ابنة آل الخطيب أمام قاضي محكمة "عوفر" الإسرائيلية غرب مدينة رام الله بالضفة الغربية، ملامحه لا تناساها "ملاك" ولا التهم التي نطقها بعجرفة "ضرب حجار، حيازة سكين، قطع شارع" وعلى إثرها أصدر حكمه الزور بالحبس مدة شهرين، 6000 شيكل، و3 سنوات تحت وقف التنفيذ "يعني لو حصل شيء بمكان قريب من تواجدها ممكن يعتقلوها" حسب والد الأسيرة المحررة، الذي أكد أنها خرجت للمحكمة خمس مرات "كانوا ينزلوها في عز البرد والتلج الساعة 2 بليل على وجبة طعام واحدة".

في المحكمة لم يُراعِ الاحتلال القانون أو حقوق الإنسان، تخرج الطفلة لتسمع الحكم عليها، أمها باكية، والدها يحاول التماسك، تبتغي احتضانهما، أن يتبادلوا الحديث ولو لثوان "لكن مخلونيش أحكي معهم". صمت اُجبرت عليه العائلة داخل قاعة محكمة المحتل، تتطلع لهم الابنة بينما تتمتم "الله على الظالم"، "اخدوني من حضن أمي شهرين" بغضب تقولها "ملاك" بينما تستعيد مشهد المحاكمة المزيف، لكنها بصلابة الفلسطيني تتوعد القاضي "بس اصير محامية إن شاء الله احاكمه واحطه بالقفص اللي حطني فيه".

المحامية "ملاك"

صورة 3

أحلام يغوص بها الآباء حين رؤية مولودهم، عن شبابه، دراسته، حياته، يتمنيان أفضل حالا منهم، لكن مصير الطفل في فلسطين اختياراته معروفة؛ الشهادة، الأسر، الإصابة، وبينهم مقاومة لا تنقطع، فلا يخلو بيت من فرد يلقى أي من المصائر الثلاث -إن لم تجتمع-، حتى أن الصغير يعلم منذ تطأ قدماه أرض الطريق، كيف يرجع عن الفعل السيء، يكفيه نهره بكلمات موجعه "عيب هاد أنت من أهل بيت شهيد.. أسير.. مصاب"، لذا تمالكت "ملاك" نفسها، استعادت قوتها، بعد أن ذاقت المغزى المراد من حبس أي فلسطيني دون جرم "بدهم يخفونا بس أحنا – الشعب الفلسطيني - ما بنخاف منهم وراح نضل واقفين لهم".

لم يكن الأسر غريبًا على عائلة ملاك "ياما قرايبي استشهدوا واتأسروا.. هيك اتعودنا على إجرام الاحتلال"، على حد قول الوالد.

غرفة صغيرة، بابها حديدي، بها يمكث 22 فتاة بينهن كانت "ملاك"، هي أصغرهم ومع ذلك تصفهم بـ"أسيرات أشبال"، البرد يضرب الأجساد، فيما لا يوجد سوى غطاء واحد لكل منهن، في الخامسة صباحا يفزعن لضربات السجانات "كل شيء بيضايقنا يعملوه"، لم يكن يحتضن الفتاة ورفيقتها سوى شابة بالثلاثين من عمرها، فما إن لاحت سيرة الأسر بذاكرة "ملاك" إلا وحضرت "لينا الجربوني".

"الجربوني" كانت بمثابة أم صغيرة للفتيات، تعد لهم طعام بديل عما يقدمه السجن "كان بيقدموا لنا أكل سيء كانت تعيد لنا تسويته"، هي أكبرهم وأكثرهم دراية بفعل "الصهاينة"، 12 عاما قضتها من الحكم عليها بـ17 عاما، تنتهز "ملاك" أي فرصة لشكر السيدة، تحفظ لها جميل وقوفها أمام محاولة إحدى السجانات لضربها "قالت لها كيف بدك تضربيها وهي مش عاملة اشي".

ألم الأسر.. ذكرى للثأر والقضية

صورة 4

في منزل الطفلة حاصرت الأفكار السيئة الأب الخمسيني؛ ابنته بعيدة في سجن تحت رحمة الاحتلال، قد يفعلون بها أي شيء من اعتداء جنسي أو ضرب، ليس هناك ضمانة، والمحتل بلا قلب، أيام عجاف مرت على الأسرة، صدقت بعض توقعات الأب "لقيناها مضروبة بعصا على رأسها وكانوا خبطوها على جسمها".

ألمّ ظلت "ملاك" تأنُ منه حتى بعد خروجها من السجن، ليس للضربات التي تلقتها من السجانات والشرطة لحظة القبض عليها، بل زاد عليه ذلك اليوم الذي اخرجوها للقاء المحامي؛ مكبلة اليدين والأرجل صحبتها الجندية، وقبل الدلوف لحجرة الزيارة ودون سبب "دبشتني في الباب"، فكان ارتطام رأسها، وأثر القيود في جسدها الباقي لأكثر من عشرين يوما عقب الإفراج عنها، ذكرى لن تنساها الصغيرة لأقل فعل يقوم به الإسرائيليون ضد الأسرى.

60 يوم مرت على "ملاك" داخل السجن ومثلها تقريبا منذ خروجها، لكنها لا تنسى وجوه مَن رافقتهم "مستحيل أنساهم.. وهضل أعمل أي شيء عشان الجميع مينساش الأسرى، لأن ما حدا بيعرف شو بيعانوا بس أنا هخلي كل الناس توقف معهم لأن اليهود مبيرحموش لا طفل صغير ولا شباب ولا أي حدا" كلمات مسلسلة تقولها أصغر أسيرة محررة بحماس لا ينقطع "أمي وأبوي مثلي الأعلى.. إذا حدا بيؤذيهم قدامي بعمل كل اللي بقدر عليه لأدافع عنهم.. إذا بدهم روحي بياخدوها"، صارت آراءها أكثر حدة عقب الخروج من الأسر، والدفاع منهجا لها ستتخذه بعد دراسة المحاماة حينما تكبر "عشان أدافع عن الأطفال الأسرى"، إذ كانت تلك أمنيتها حتى قبل القبض عليها.

الأسر جعل "ملاك" أقوى "بقيت شجاعة.. هما بدهم يسرقوا طفولتنا وانا بدي احكي للاحتلال إنه خدوا طفولتنا لكن ما راح تاخدوا الأرض"، رغم أيام الشقاء في السجن، فقد كوّنت صداقات وطيدة، وخرجت منه بصديقات تفتقدهن الآن، أرادت لو اصطحبت كل من معها بالزنزانة ليعدن إلى بيوتهن، لكن ما لها من حيلة.

المواد الدراسية التي فقدتها ابنة مدرسة "بتين" استطاعت تعويضها، تعاون المعلمون لإعادة ما فاتها من دروس، أقامت لها المدرسة احتفالية بمناسبة إطلاق سراحها "خلتني مبسوطة كتير"، استقبلتها صديقات المدرسة بحفاوة، قصت عليهن أيام الأسر إذ كانت تشغل وقتها بمطالعة الكتب، مضايقات الاحتلال، والقصيدة التي ألفتها مع أخواتها الأسيرات.

بيوم الأسير تختلف أحلام الفتاة المحررة عن والدها "نفسي الناس تهتم بالأسرى لأنهم بدهم حدا يساعدهم"، أما الأب فتمنى أن ينظر الكثيرون لابنته بعين الاهتمام المعنوي، يؤازرونها بعد محنتها، حتى تستعيد أكبر جزء ممكن من حياتها السابقة.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان