عم "صبري".. دليلك إلى الأدب العالمي
كتبت- دعاء الفولي و رنا الجميعي:
تصوير- محمود بكار:
في الحادية عشر صباحًا، يبدأ في رص كُتبه، عناوين بالإنجليزية والفرنسية، ربما تجد بالإيطالية أيضًا، كذلك بضعة كتب بالعربية، غير أن الأغلب هو اللغات الأجنبية، إذا صادفك الذهاب إلى شارع عماد الدين، ستجد صبري السرجاني عند الناصية الأولى من جهة اليسار، وإذا تحدثت معه، سيفاجئك لسانه مصطبغا بطابع اللغات التي يبيعها، ولربما يرشح لك بضعة روايات لأدباء راحلين، مزيلًا حديثه بجملة "teach your self-علم نفسك".
تعلم اللغة الإنجليزية لم يكن عبئًا على "السرجاني"، بداية قرأ كل ما استطاع من روايات، سمع الكثير من الأغاني والمسلسلات، كان يفعل ذلك لنفسه وليس للمهنة، أصبحت لغته أفضل مع الوقت، إلى أن سأله أحد الأجانب العابرين على مكتبته عن سر الإتقان "قولتله من الشارع"، بالنسبة له الاحتكاك هو الأهم، فالدارسة في مصر لا تُسمن ولا تُغني من علم "الجامعات بتخرّج طلاب وترميهم".
لا يقف عم صبري مستكينًا حينما تبتاع منه الكتاب المراد، إذ يستخدم حاصلته الأجنبية، يُشير بترشيحات أخرى "ممكن أقوله اتش جي ويلز، روايته آلة الزمن، وتشارلز ديكنز، مئة عام من العزلة"، معبرًا عن عظمة شيكسبير "دا بقى دماغ تانية، انجليزي قديم، الناس دي مبتتكررش".
الاختلاف كان ما دفع "السرجاني" إلى التخصص في بيع الكتب الإنجليزية والفرنسية "العربي أي حد بيقراه"، كذلك وجوده بجانب والده عقب إنهاء الثانوية العامة، علّمه "الصنعة"، كان للأب مكتبة بسور الأزبكية تبيع الكتب الأجنبية "ولازالت موجودة وفيها مخزن" لكنه قرر منذ 3 أشهر فقط الارتحال من مكانه القديم إلى وسط البلد.
تاريخ طويل بين عم صبري وسوق الكتب القديمة، خمس وعشرين عامًا، ارتكز فيهم على بيع الكتب الأجنبية، له زبائن يعرفونه بالاسم، يمتلك مكتبة بسور الأزبكية، يتذكر اهتمام الأجانب بالكتب القديمة التي يتجاوز عمرها المائة عام.
جاءه فرنسي يومًا وابتاع منه كتب فرنسية قديمة، عمرها مائة عام أو يزيد، ذهب بها ذاك الفرنسي لبيعها على ضفاف نهر السين "زي سور الأزبكية عندنا كدا"، يظن أن أهمية الكتب تنبع من قدمها، وأن الدولة يجب أن تحافظ على قيمة هذه الكتب "المفروض الدولة تحرم بيع الكتب دي"، يقول البائع ذلك رغم علمه بجرم ما فعله "اه صحيح أنا بكسب فيها ميت ألف جنيه أو ميتين، لكن دا خسارة للبلد"، ويضيف "أنا مش عاوز الحتة دي، دي زي الهيروين والبودرة كدا".
من خلال عم صبري تعرفت صحفية برتغالية على العادات والتقاليد المصرية، كانت بابها للعالم المصري، تعرف إليها بائع الكتب منذ خمسة عشر عام، يتذكر كيف صادقته وابتاعت منه الكتب القديمة "اشترت كتاب عن ابراهيم باشا، كان عمره 150 سنة".
رغم اعتياده على وجود الأجانب سابقًا، غير أن الحال اختلف الآن "السياحة مضروبة وقدامها كتير على ما ترجع". لازال البائع ذو الـ62 عامًا يُرشد من يأتونه طالبين بعض الكتب النادرة أو القديمة "من كام يوم بنت طلبت مني رواية فرنسية مكنتش موجودة بس جبتها لها من المخزن".
مُرغمًا ترك البائع المُثقف مكانه، وجود غرباء في السور أصابه بالاستياء "عيال صغيرة بقت تتحكم في الناس وأنا مش عايز مشاكل غير إن القانون مبينصفش المظلوم"، كذلك هناك المُتحكمون بمساحة كل بائع في المكان "بيعملوا كعوب ويأجروا المكان لواحد واتنين وتلاتة"، ضج الرجل بالتفاصيل كلها وقرر البقاء وحده بالشارع حتى يتحسن الوضع.
مغادرة الكتب ليس خيارًا مطروحًا أمام بائع وسط البلد "كذا حد اقترح عليا أغير المجال ومنهم زوجتي كانت بتقولي إن المجال مبقاش يأكل عيش"، لكنه لم يستطع الابتعاد عن شغفه الأكبر في الحياة، فحتى أتربة الكُتب ورحلة بحثه عنها من أجل الزبائن أمور تجعله سعيدًا، لذا لم يبق لديه سوى "الرضا بالظروف لأن البلد كلها واقعة".
القصص التي يعيش بينها "السرجاني" كوّنت شخصيته مع الوقت، يذكر حكايته الأولى في الثانوية العامة مع إيه جي كرونين في قصة "القلعة"، كيف ساعدت زوجة زوجها الطبيب كي يتحول من شخص فاشل إلى إنسان وجرّاح ناجح "كانت مقررة في الدراسة بس قريتها تاني لما كبرت".
هناك أيضًا رواية عن روبين هود "الزعيم اللي بيساعد الفقراء لما بياخد من الأغنياء عشان يديهم"، و"جول فيرن" كاتب "رحلة إلى مركز الأرض"، يعتبره البائع الستيني عبقري "فيه حاجات من الخيال اللي كتبه بقت حقيقة بعد كدة"، وحكايات أخرى كثيرة، كلما جاء ذكرها لمعت عينا "السرجاني"، إذ صار أبطال الروايات أصدقائه "كان نفسي أبقى كل الشخصيات دي مع بعض" يقول ضاحكًا.
يعرف عم "صبري" أهمية القراءة، يُتابع تطور الكتب والأفكار التي تحملها، كما في مسرحية "الخيميائي" لمؤلفها "بن جونسون"، حيث اتخذ الكاتب باولو كويليو من فكرتها الأساسية لروايته الأشهر، والتي تحمل نفس الاسم.
لا يواجه البائع مشكلات مع الدولة في تأجيره المكان لبيع الكتب، يعلم التصريحات القادمة من رئيس الدولة للحفاظ على الثقافة، كما يحبه الزبائن رغم غلو الكتب "بيقولولي احنا عارفين إن الكتاب غالي، بس احنا مبسوطين"، مما يرسم على محياه الابتسامة.
رغم تأكيد "السرجاني" على أن الانترنت أضعف نسب القراءة، لكنه لن يقضي عليها، إذ يقول "هو مين اللي صنع الكومبيوتر دة.. ما هي عقلية"، يتبعها بالقول الفيصل "والعقلية دي جابت الأفكار من كتاب"، فيحسم الأمر "يبقى الكتاب عمره ما يموت".
فيديو قد يعجبك: