الانتفاضة الفلسطينية والمصريين.. ذاكرة الثورة الجميلة تتراجع
كتب- أحمد الليثي وإشراق أحمد:
"الحدود تراب" لم تكن حينها كلمات مثالية حالمة بأرض، لا يعيق أهلها حاجز مادي ومعنوي، بل كانت حقيقة جسدها أشخاص طبيعيون، تركوا لفطرتهم العنان، لم يعبأوا لشيء سوى مشاركة أصحاب حق ضد محتل لا يتوان في ارتكاب أي جرم، يعلمون أن هتافهم مجرد "أضعف الإيمان، لكنهم أيقنوا أنه أفضل من الخذلان والصمت، فحينما "هبّ" الفلسطينيون ضد "العدو" فقط بحجارة في اليد، في انتفاضتين لم يوقفها سوى موائد السياسيين، كانت الشوارع في مصر مشتعلة، تعلي راية فلسطين بالقلوب قبل الأيادي، تربى أجيال صغار أن القضية واحدة، تعلموا حروف "الثورة" قبل ميعادها، هتفوا صدقا "بالروح بالدم نفديك يا فلسطين"، لم يُعطوا فرصة الالتفات لمن يشاركوهم، لتراخي الحكام، غير أن الزمن والأشخاص فعلا ألاعيبهم، فصار الهتاف والحجارة وقتل الفلسطينيين كأنه يحدث بين جدران حاجبة للرؤية والصوت، لا يحرك ساكن، رغم اشتعاله بالذاكرة.
رغم عدم تواجدها بمصر في فترة الانتفاضتين عام 87 و2000 غير أن أهداف سويف الكاتبة الصحفية لم تنقطع عن متابعة الأوضاع في موطن هواها فلسطين، وبلدها الأصلي مصر، تتلمس التفاصيل التي حرصت على تسجيلها في كتاب "في مواجهة المدافع"، فتحكي عن اللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة الفلسطينية التي تأسست عام 2000 بدعم من مركز هشام مبارك، وقيامها بدور رئيس في مساندة الشعب الفلسطيني، بالذهاب إلى محافظات مصر، كافة الأماكن أعلاها مستوى وأبسطها لجمع التبرعات والدعوة للتفاعل مع القضية من ناحية أخرى، حينها وجدة اللجنة رد فعل غير مسبوق "مآذن الجوامع كانت تقول بعد الصلاة أن في ناس بتجمع تبرعات عشان فلسطين.. في ناس كانت بتتبرع بكباية رز وطبيخ" تقول "سويف" عن التفاعل الشغوف من أجل فلسطين، حتى أن اللجنة حينها جمعت أطنان هائلة من الأرز، مما جعلها لا ترد أيدي المصريين الممدودة بأبسط أشيائهم، فتلجأ إلى بيع التبرعات العينية وشراء الاحتياجات الطبيعة، التي تبرع القائمون على إنتاجها كذلك بالمشاركة بنصف ثمنها من أجل فلسطين.
تلك الحالة من الاهتمام التي تجدها الكاتبة الصحفية تراجعت مع نبرة الإعلام المصدرة لترسيخ فكرة "أن غزة هي فلسطين، وحماس هم اللإرهاب"، وما وصفته بـ"تكريه الناس في الفلسطينين" الأمر الذي نجم عنه عزوف أغلب المصريين عن التفاعل مع القضية الفلسطينية.
على أعتاب مدرسة المطرية الثانوية كان محمد وهبة يهتف بعلو الصوت، لم يكمل الطالب بالصف الأول الثانوي يومه الدراسي؛ فالمظاهرة أبقى وأهم "كان عندنا دم" يقولها الشاب الثلاثيني بضحكة ممزوجة بالأسى، بزفرة يتذكر الأيام الخوالي متحسرا على وطنية تحولت من "وطن أكبر إلى أنانية وانغلاق" حسب وصفه، مشيرا إلى انحسار اهتمام الشعب على صراعات الأهلي وتصريحات مرتضى منصور ومكالمة السبكي، بينما تراث ينهب وقومية تستباح دون رادع.
يُلقي وهبة باللوم على الإعلام والنظام التعليمي، فبينما كان صبيا يتابع بشغف ما يجري على طاولة مجلس الأمن حول مصير العراق وتحرير القدس، باتت الفضائيات تنهر الأخوة السوريون على زحامهم لنا في الرزق "بيحاولوا طول الوقت يخلونا نقول وإحنا مالنا.. ويملوا دماغنا بخيالات مريضة من عينة: الفلسطينيين باعوا أرضهم.. وإن للقدس رب يحميه".
لم يكن أحمد سمير مجرد طالب يراجع محاضراته داخل أروقة الجامعة، بل كان العمل السياسي يشغله طيلة الوقت، لذا حين اندلعت انتفاضة الأقصى مع مطلع الألفية الجديدة، كان أحد منظمي التظاهرات داخل الحرم.
ضابط يشارك المتظاهرين غضبهم، تلاحم تلاميذ مدرسة السعدية الثانوية مع طلاب الجامعة، هتافات ترج الشوارع. مشاهد لا تغيب عن مخيلة الكاتب الصحفي، يرجع زخمها لأسباب عدة؛ منها الدعم الفني والإعلامي الكبير "كل مطربين جيلنا غنوا للقدس –عمرو دياب وفؤاد وهاني شاكر وغيرهم، وكان في أوبريتات ومشاركات عربية طول الوقت"، علاوة على أن المتسبب الرئيسي للانتفاضة كان شارون –بدخوله وجنوده المسجد الأقصى بالأحذية- الذي يكن له الشعب المصري كراهية تاريخية وليس مجرد قائد عسكري إسرائيلي، فضلا عن أن التظاهرات كانت لسمير وجيله متنفسا جيدا لغضب مكتوم ضد نظام مبارك "جزء من الرسالة إن الحاكم فاشل داخليا وخارجيا.. حتى صورة مصر في المنطقة مهمشة ومش قادرة توقف انتهاكات بحق أهم قضية عربية" يوضح الكاتب الصحفي إن رؤية الشارع المصري للقضية اختلفت بعد أن تبلورت رؤى تشير إلى الاهتمام بالظلم الواقع داخليا وعنف الشرطة وقضايا متراكمة أولى بتوجيه الغضب ناحيتها، فيما يعتبر سمير أن هناك حالة من التشكك سيطرت على المجتمع المصري –وخصوصا بعد الثورة- عن وجود حلول جذرية للقضية وبخاصة بعد صراعات أودت بأكثر من دولة عربية في مصائر مجهولة.
حجارة بأيدي الكبار والصغار، يقابلها جنود مدججة بالسلاح، جنائز تعج بالهتاف، جموع تُعلي راية فلسطين.. مشاهد لم تتوقف شاشات التليفزيون عن بثها، ظلت أعين شروق صلاح تلاحقها، ورغم عمرها الذي لم يتجاوز السبعة أعوام وقت انتفاضة الأقصى عام 2000، إلا أنها حركت مشاعرها الغضة، وفي المدرسة وجدت مَن يشاركها، "يلا نعمل مظاهرة زي الناس في التليفزيون" بلهجة الصغار اتفقت "شروق" مع صديقتها "أماني السعيد" وانضم إليهما ثلاثة فتيات من أصدقاء الفصل، رسمن علم فلسطين على أوراق بيضاء "وتقريبا رسمناه غلط" تقولها "أماني" بابتسامة متذكرة أول مظاهرة تتقدمها.
بجدية حاولت الصغيرات تطبيق ما يقوم به الكبار، فاجتمعن لرسم علم إسرائيل لحرقه "ماعرفناش النجمة اللي في النص بتتعمل إزاي" ضاحكة تتذكر "شروق" فعلتها مع صديقاتها، الذين لم ييأسوا رغم عدم سير خطتهم كما أرادوا، فلم يستطيعوا حرق العلم الإسرائيلي "لأن مفيش حاجة طبعا نحرق بها"، لكنهم أخذوا يدهسون الورقة المرسومة بأرجلهم، ثم طافوا بفناء المدرسة رافعين الأعلام الفلسطينية المرسومة مرددين "بالروح بالدم نفديك يا فلسطين"، ورغم عدم تكرارهم الأمر، وأخذ المدرسين فعلهم على أنه "لعب"، إلا أن الموقف ظل محفورا بذاكرة الصغيرات.
"وأنا عندي 7 سنين الموضوع كان مأثر فيا أكتر من الأيام دي" تصف "شروق" حالها مع القضية الفلسطينية بعد مرور 13 عام، مرجعة ذلك إلى احساسها الشخصي بأنها برسم العلم أو التظاهر تشارك الفلسطينيين مصابهم، فيما بعد أن صارت في العشرين من عمرها لم تجد في ذلك نفعا، فضلا عن انشغالها بما يجري في مصر، ومن ناحية أخرى اختفاء الاهتمام الذي كان يلفت انتباهها وهي صغيرة "الدنيا كانت مقلوبة"، فيما صار ضرب غزة أو اقتحام الأقصى "شيء عادي" لا يلقى صدى في الإعلام، مشيرة إلى أن مظاهرتهم الصغيرة تأثرت بما كان يُعرض بالتليفزيون، فخريجة السياسة والاقتصاد لم تبصر حينها مظاهرة حقيقة تجوب الشوارع المحيطة بمدرستها "الزهرات التجريبية" في منطقة الكوربا بمصر الجديدة.
كأنما غُرس حب فلسطين في قلب منة شرف الدين منذ ولدت، تأثرت بكلمات أبيها عن القضية، وأصبح مدرس التاريخ "محمد صبري" من الأساتذة المقربين إليها الحريصة على التواصل معهم حتى بعد بلوغها التاسعة والعشرين من عمرها، بسببه وطدت وعيها عن الأرض الأسيرة، تُكن له بالفضل في إشرافه على مجلات الحائط المدرسية، التي شاركت بها في الكتابة عن الأقصى وفلسطين وقت الانتفاضة الثانية، بثه لفكرة عدم الاكتفاء بالدعم المعنوي، بل المادي أيضا، بمبادرته لجمع الأموال وإرسالها للجنة الإغاثة بنقابة الأطباء "كنت بجمع من عيلتي وأصحابي وأديه الفلوس"، ولا زال مشهد إيصالات استلام المبالغ المختومة من لجن الإغاثة المعلقة يمين باب المدرسة عالق بذهن الشابة عن أمانة المدرس، الذي كان سبب رئيس في تأكيد يقينها حتى اليوم أن "فلسطين قضيتنا أحنا والأولى أننا نتفاعل معاها مش نتعاطف".
الشال الفلسطيني المربوط بحقيبة المدرسة، صورة الشيخ أحمد ياسين المتصدرة باب الغرفة، المسجد الأقصى، السلسلة المتدلية من العنق تحتضن خريطة فلسطين في القلب منها، صورة الشهداء المقتطعة من الجرائد لتحملها أوراق بيضاء مذيلة بتعليق فتاة في المرحلة الإعدادية... أشياء محفورة بقلب "منة" قبل ذاكرتها، لم تفارقها وقت الانتفاضة الثانية، الذي عرفت فيه للمرة الأولى وسائل التعبير عن الغضب، بدءً من الكلمة وانتهاءً بالفعل، فتتذكر محاولة خروجها وزملائها في تظاهرة ومنع المدرسين لهم "مدرس الرياضيات قال لنا هرش عليكم ماية"، حملة مقاطعة البضائع الأمريكية والإسرائيلية "كنت بجمع اسماء المنتجات وأطبعها وأوزعها وأنا ماشية على ناس معرفهاش".
خاضت "منة" كافة وسائل التفاعل مع الانتفاضة الجماعية منها والفردية "مرة قعدت ألف حوالين المدرسة بصور الشهداء والأطفال"، ورغم أنها لم تجد رد فعل من المارة، لكنها كانت توقن أنها ليست وحيدة "الوطن العربي كله وقتها كان متفاعل.. المدارس كانت بتخرج تتظاهر.. الناس كان عندها وعي وتعاطف"، وهو ما لم تجده بعد ذلك، حيث تزايد "التشوية المتعمد" للفلسطينيين حسب قولها، وتحول الإحساس من "عملنا اللي علينا" مع فعل شيء بسيط للقضية، إلى مرحلة اللاشيء بل والتشفي "حالة أحسن" كما تصف "منة".
لم يخفت وهج القضية الفلسطينية في نفس "منة"، بل كانت تزيدها الأحداث في مصر وعيا، فالفتاة التي غيرت نغمة هاتفها المحمول بعد قيام ثورة 25 يناير إلى "أصبح عندي الآن بندقية"، لإيمانها أن من مصر يبدأ تحرير فلسطين، باتت موقنة بعد مشاركتها في قافلة غزة عام 2012 ومعايشتها لأحداث القصف أن "الشعب المصري لو قرب من معاناة الفلسطينيين الصورة هتتغير وحالة التغييب العامة هتزول" .
فيديو قد يعجبك: