فتاة الثورة المصرية على غلاف مرجع أجنبي.. "احنا لسة ساندين طولنا"
كتبت - رنا الجميعي:
الأمل هو المعنى الذي يبقى بكل صوره، المقاومة هي جزء من الأمل، وتظل صور الثوار، المطالبين بالحقوق، والممتلئين بالغضب، سواء بدى ذلك على الملامح أم لم يظهر، هو الأبرز، والصور بمعناها المادي، تلك التي تلتقط مشاهد بعينها، ويتوقف الزمن عندها، هي الدليل الأقوى على وجود ذلك الأمل بمرور الأزمنة، يظل المعنى المنفرد به الأمل لا يعني شخصًا بعينه، ولا جماعة وحدها، إنما يشمل الإنسانية أجمعها.
في اليوم الموافق الثامن والعشرون من أغسطس، عام 1963، تظاهر رُبع مليون مواطن أمريكي عند نصب لينكولن التذكاري، بواشنطن دي سي، هتفوا حينها بمطالب بسيطة كان من بينها؛ السكن اللائق؛ الوظائف والمساواة، حيث كانوا يختلفوا عن غيرهم فقط في لون البشرة، ذلك اليوم البعيد التقط أحدهم صورة لسيدة ترتدي الأبيض مُعلق بيديها لافتة تحمل عليها كلمة "الحرية"، الصورة صارت رمزًا إلى الآن، ودليلًا على مقاومة الأمريكان الأفريقيين ضد التمييز العنصري الذي مورس ضدهم.
بطرقات الجامعة الكاثوليكية، بأستراليا، سارت "أحلام مصطفى" محاولة اللحاق بالمحاضرة، وفي طريقها إليها، وجدت مرجعًا تحت عنوان "نظرية معرفة المقاومة"، لكاتبه "خوسيه مِدينا"، الكتاب حمل صورة السيدة الشهيرة من المظاهرة الأمريكية، وبجانبها صورة لفتاة ترتدي حجاب أسود ويغطيها كوفية فلسطين، فمها مفتوح على هتاف غير مسموع، غضب يملؤه وجهها، وورائها سيدات عديدات يهتفن.
استوقفت "أحلام" صورة الغلاف، تلك الفتاة مصرية تعرفها، بمنتصف المحاضرة علّقت بصوت عالٍ قائلة بالإنجليزية "دي صاحبتي"، فصورة الشابة هي أيقونة من أيقونات الثورة المصرية، لا تعلم "أحلام" ما وراء قصة السيدة الأمريكية، لكنها تعرف "سارة علاء"، لم يبحث كاتب مرجع "نظرية معرفة المقاومة" وراء قصص النساء الذي أحاط كتابه بهن، وفصّل في كتابه عن معنى المقاومة، والقمع العنصري، لكن كل صورة منهن ورائها حكاية تستحق أن تُروى.
في اليوم الثالث والعشرين من ديسمبر الموافق الجمعة، عام 2011، المكان هو وسط البلد، وحمل اسم اليوم "جمعة حرائر مصر"، شاركت فيه النساء بمشهد ما يزال بالأذهان، حيث صرخن ضد ما حدث للفتيات بأحداث مجلس الوزراء، خاصة ما حدث للفتاة التي تم تعريتها أمام مجلس الوزراء من قبل عساكر الجيش، والتي عرفت اعلاميًا بـ"ست البنات".
شاركت "سارة" في ذلك اليوم، سافرت خصيصًا من المنصورة للحضور، هي المحسوبة على التيار الإسلامي، حيث نظّم المظاهرة عناصر حزبية متعددة من بينهم اليساريين والإسلاميين، شاركت بشُحنة الغضب داخلها "مكنتش أعرف هي مين وقتها، ولما عرفت بعد كدا اتفجعت"، تتذكر يومها أثناء مرورهن بميدان "طلعت حرب" أن الهتافات كان محورها "انتو مفيكوش راجل"، تقولها ضاحكة، عَلِق بذهنها القوة التي صرخوا بها "كنا في حالة شد وجذب ممتعة، وفيه ناس من المخابرات كانوا وسطنا عاوزين يحولوا مسار المظاهرة"، لكن المشاركات اتصفن بالحماس، ما جعلهن سريعات في اتخاذ القرارات وحماية أنفسهن.
التقط أحدهم الصورة لـ"سارة" ذلك اليوم، فيما تتذكر أنها هتفت ورددت السيدات ورائها الهتاف، حينما عرفت الشابة العشرينية من هي ست البنات، فهي صديقة لها، فُجعت فيما حدث لها، لم تتصور أن يحدث لهذه الفتاة بالذات، تقول أنها كانت تُشبهها في الهيئة، فيما ارتدت بأحد أيام اعتصام العباسية مثلها "هي كانت بتلبس طرحة سودا ونضارة سودا، وشال فلسطين على أي عباية"، مما جعل البعض يخبرنها على موقع "تويتر" بآخر اليوم أن "ست البنات" شوهدت بالعباسية "كانت شبههي أوي".
تحولت صورتها المُلتقطة لأيقونة بالثورة المصرية، حينما التقت بنفسها على جرافيتي بأحد جداريات شارع محمد محمود "كنت بعدي وأنا مش طايقة الصورة"، تعاملت الشابة وقتها مع صورتها بنوع من الكره "كنت بقول إننا لو مكناش مرينا بكل اللي شفناه، مكانش زماننا اتوجعنا أوي كدا في الآخر"، الصورة ظلت تطاردها ليس فقط كجرافيتي، ولكن أيضًا بلافتات لها بأرجاء العالم، أرسل إليها عديدة صورتها بمظاهرات "ناس في روسيا في الحزب الشيوعي كانوا بينزلوا بالصورة في مظاهراتهم، وجروب دعم البرادعي في أمريكا"، رُغمًا عنها صارت هي أيقونة للثورة والغضب.
أثناء المحاضرة بالجامعة الكاثوليكية كانت "أحلام" تُعلق على صورة الغلاف، وتقول للحضور أن صورة صديقتها بمظاهرة ضمن أحداث الثورة المصرية "وأنا بقولها حسيت زي ما أكون بتكلم عن ماضي سحيق مش كام سنة فاتوا".
رويدًا تغير شعور "سارة" بشأن الصورة، صارت الثورة غُصة بالحلق، بعدما كانت شوكًا ينغزها، في مرات أخرى سارت أمام الجرافيتي بدأت تفكر أن صورتها "رمز للعزة"، تتذكر حينما رافق أخاها فنانين آخرين ليرسموا جداريات الجامعة الأمريكية، حينما بدأوا برسم صورتها، قال أخاها لهم ضاحكًا "على فكرة دي من الإسلاميين"، ضحكوا ثم أكملوا الرسم.
بينما تستمر المحاضرة التي تدرس بها "أحلام"، تتذكر أيامًا مضت أعادتها إليها صورة "سارة"، أعجبها أن صورتها مستخدمة في إطار تأصيلي "يعني مش مستخدمة كتعبير عن حدث مفرد"، فرِحت أن صورة الغلاف تكسر انطباعات مسبقة لها علاقة بالمرأة، الإسلام والحجاب، وأن وجود "سارة" كغلاف لمرجع أجنبي يشمل المصريون في مفهوم الإنسانية الواسع "بدل ما احنا على طول مركونين على جنب ومبنطلعش غير في سياقات الظلم والاستبداد".
بعد أربع أعوام من الثورة، وعامين على فض رابعة التي شهدتها "سارة" أيضًا، بدأت الفتاة في التصالح مع نفسها، تُدرك أن تلك الصورة ستظل موجودة، وأن عليها تجاوز ما حدث، "احنا خضنا التجربة وعملنا اللي علينا، الصورة بتدي إيحاء إننا أقوياء، وإننا لسة ساندين راسنا، وساندين طولنا".
فيديو قد يعجبك: