سهام شوادة.. الثورة يعني ''عيش وملح''
كتبت-دعاء الفولي:
هرولت سهام شوادة نحو سنترال رمسيس، ترتفع نبضات قلبها بعنف، تريد إجراء مكالمة هاتفية واحدة للمنزل قد تبعث طمأنينة مؤقتة في قلوبهم. ''محدش يقولي ارجعي'' قالتها للوالدة ثم أغلقت الخط، تحركت كما جاءت في اتجاه ميدان التحرير، قبل جمعة الغضب بساعات معدودة، قرر الجمع الاعتصام على أرض التحرير، خوفا ألا يستطيعوا دخوله مرة أخرى، مكان تم بناءه أسفل المنصة الرئيسية الموجودة قرب مسجد عمر مكرم، وتغطيته بلافتات الإضرابات العمالية البلاستيكية، أصبح خيمة الإعاشة التي تحوي طعام وشراب المتظاهرين والوافدين على الميدان، وصارت ''شوادة'' بنفس راضية مسئولة عن تغذية آلاف لم تعرفهم من قبل.
سهام فتاة مُدللة، كما تحكي عن نفسها. أرادت نسف الأفكار النمطية عن هذه النوعية من الفتيات، اختارت عندما بدأت عملها الصحفي منذ أكثر من عشر سنوات أن تعمل بملف العمال، تغطي اعتصاماتهم، سنوات بقاءها مع العمال جعلتها صاحبة خبرة عريضة في توفير أغطية وطعام وشراب، حتى أنها كانت مسئولة عن إطعام 13 اعتصام عمالي قُرب مجلس الوزراء ''لولا سنين الإضرابات العمالية مكنتش هعرف اعمل حاجة في التحرير''، كان للتحرير وقت الثورة أثر جديد في النفس، تزداد افتقادا لتعبها هناك، تفكر في رائحة هواء الميدان، غير أنها لم تعد تشتاق له الآن ولا يستهويها مظهره الحالي.
عندما استقر المتظاهرون بالميدان عقب جمعة الغضب، انهالت التبرعات، توافد عليهم الكثيرون ممن أحضروا زجاجات المياه، والأطعمة المعلبة، كالتونة والجبن والعصائر، وحتى الطعام المطبوخ منزليا، كان المتطوعون معها في الخيمة أصدقاءها، إلا أنهم جميعا تكبدوا عناء الحفاظ على أمانة ما يأتيهم، على رأسهم سهام التي لم يكن لها بديل إذا ما تركت مكانها داخل خيمة الإعاشة، كان الحال كخلية نحل، ملكتها سهام.
السادس والعشرين من يناير؛ قبل أن يبدأ الاعتصام بشكل رسمي خرجت المحررة الصحفية في مسيرة متجهة للميدان، مع الهجوم الأمني تفرق الناس، بقيت ومعها 3 صديقات في شوارع بولاق أبو العلا، عناصر الأمن الذين ارتدوا زيا مدنيا خرجوا عليهن، سريعا حدث الاعتداء والضرب و''محاولة التعرية''، لم تكن تلك المرة الأولى التي تصطدم فيها بشكل جسدي مع عناصر الأمن ''بس المرة دي كانت مختلفة.. كانوا بيحاولوا يكسروا شوكة المظاهرات بأنهم يعتدوا على البنات''، ما حدث بعد ذلك توجزه في أن أهالي المنطقة أخذوهن عنوة من أيديهن، ما فعلته عناصر الأمن في ذلك اليوم جعل غير المتورطين في الثورة يغضبون، كانت خسائر 26 يناير كبيرة، تم إحراق سيارتي شرطة، وهربت الفتيات ليكملن الليلة في مركز هشام مبارك.
أيام الإعاشة كانت مرهقة؛ تنكفئ سهام على كميات الطعام الموجودة أمامها لتحاول عمل الشطائر ''ساعات كنت مفروض أعمل ألف سندوتش في وقت قليل''، يتولى المساعدون توزيعها، تقوم إحدى الفتيات بفتح علب الجبنة عن طريق تطبيقها ثم عمل فتحة أعلى العلبة، ليستغنين عن السكاكين، أخرى توزع زجاجات المياه المعدنية على ''هتيفة'' الميدان على المنصة، وتملأ الزجاجات الأخرى بمياه عادية ''كنا بنخلي المياه المعدنية للي على المنصة عشان بيبقوا تعبانين''، بينما تأخذ ثالثة الزيت المتبقي من علب التونة لتفرغه في زجاجات؛ فيذهب بها متطوع إلى أحد محلات الطعام التي تحتاج هذا الزيت وتعطيهم في مقابله ''ساندوتشات''، وتحتفظ متطوعة بمهمة غسل الملابس، خاصة معاطف أطباء المستشفى الميداني.
خيمة الإعاشة صارت دولة متكاملة، لا يُسمح بدخولها إلا للعاملين فقط. اعتادت الفتاة أن تكون حاسمة في هذه الأوقات؛ لتضمن توزيع الطعام بشكل صحيح، كشطائر الجمبري التي تبرع بها أحد الممثلين، فرغم أن الكميات كانت كبيرة، لكنها لم تكن لتكفي العدد الهائل صباحا؛ لذا فضلت بقاءها إلى المساء ''اللي بيباتوا يحرسوا الميدان بيبقوا تعبانين ولو طلعتها الصبح مش هتكفي الناس''، لم يكن الطعام مختلفا فيما عدا ذلك، إلا من بعض أنواع ''السلطات'' التي أحضرها الوافدون ''حاجات عمري ما شوفتها'' تقول ضاحكة، قبل أن تبدي إعجابها بكراتين الجبنة المثلثات التي لم ترها من قبل وكذلك ''جرادل المربى''. لم يأكل المتظاهرون شيئا من ''كنتاكي'' كما زعم الإعلام، ولم تأتهم أموال خارجية، حتى أنها رفضت تبرعات مالية جاءتهم كثيرا لتنفي الشبهة ''كنت بقولهم احنا محتاجين كذا روحوا اشتروه''.
تعودت المحررة الصحفية –لم تذهب إلى عملها بجريدة البديل طوال 18 يوم- ألا تترك الخيمة إلا مرة واحدة فجرا لتذهب إلى مسجد عمر مكرم وتغتسل، ما يحتم عليها عدم شرب الكثير من المياه لتستغني عن الذهاب إلى الحمام، كذلك الملابس ''كان جوز أختي بييجي ياخدها ويجيبلي هدوم جديدة''، أما طعام المتبرعين فلم تمد يدها عليها ''طبعي إني مبعرفش آكل من برة'' كررتها عدة مرات في وجوه المتعجبين من انتظارها الوجبة التي يُحضرها لها زوج الأخت مساء كل يوم، إذ خسرت على إثر ذلك 13 كيلو من وزنها.
النوم كان بوضعية الجلوس، لدرجة أنها ظلت 10 أيام كاملة بعد انتهاء الثورة لا تستطيع النوم، ما اضطرها للذهاب إلى طبيب للحصول على منوم، كانت أيام التحرير عصيبة، ليس بسبب الضرب ولكن الضغط النفسي يأتيها من كل مكان، وهي مُكبلة بإرادتها داخل الخيمة تعكف على الانتهاء من إعداد الطعام للأفواه الجائعة.
''انا كنت بسمع أصوات الضرب برة.. بس مكنتش بخرج''، تحزن عندما تتذكر أن الإعاشة أخذتها من حضور مشاهد مهمة في الميدان، على رأسها موقعة الجمل. يبدأ الحدث وينتهي، وتخرج هي لترى الآثار، لكنها اضطرت بإحدى المرات إلى ترك الميدان عدة ساعات.
اتصل بها الوالد معاتبا على بقاءها طوال تلك المدة دون العودة إلى المنزل، ثم أتبعته الوالدة بالاتصال ''مكالمة أمي هزتني.. قالتلي إنها تعبانة وانا قولتلها والنبي ما تدعيش عليا''، تدفع هذه الذكرى بالدموع إلى عينيها. تمالكت نفسها قليلا ثم تركت الميدان قبيل الفجر لتطمئن على الوالدة، عادت عصر اليوم الثاني، عقب 10 أيام من بداية الاعتصام تشكلت أكثر من لجنة إعاشة، ما خفف الضغط عليها قليلا.
تقابل سهام كل فترة أحد الذين ناولتهم طعاما في الميدان، لا تتذكرهم ''انا مكنتش ببقى شايفة قدامي''، لكنهم يقصون عليها مواقف جمعتهم بها. عقب انتهاء الـ18 يوما تبقى لآل الإعاشة مواد غذائية كثيرة، تقدر قيمتها بـ 10 آلاف جنيه، بعد استئذان أصحابها قررت سهام توصيلها إلى المساجين السياسيين بعنبر ''ج'' و''د'' بسجن طرة، عن طريق عنبر ''أ''، علمت من أحد المسجونين به أن العنبران عوقبا بمنع الطعام عنهما، بعدما حدث من اقتحام السجون والأقسام، بشكل ما وصلت المواد الغذائية إليهم، وربما كان ذلك أفضل شيء تُختم به أيام الثورة بالنسبة لها.
لم ترغب سهام في الرحيل من الميدان ''احنا موصلناش لحاجة عشان محققناش مطالبنا الأولى بتاعة يناير.. اللي هي عيش حرية عدالة اجتماعية''، كانت تعلم أن نجاح الثورة ليس يسيرا، لم تخف أبدا من تضييع الوقت في البقاء بالميدان دون الدراية بنتائج الثورة ''المهم إن الناس كانت بتقول لأ.. المهم إننا كنا بنضغط''.
تابع باقي موضوعات الملف:
"فلان الفلاني".. الثورة بنت المجهولين "ملف خاص"
أحمد أمين.. واجه مبارك بـ''7 جنيه'' وصنع متحف الثورة بـ''مشمع''
مصطفى.. ''اللي كان يومها واحد من الحراس الشعبيين للمتحف''
عم فولي.. ابن المطرية يتعلم الثورة على الطريقة الإنجليزية- فيديو
''الششتاوي''.. الثورة تحت أقدام الأمهات
محمد عمران.. أن تختار بين الثورة و''بنتك''
نساء عائلة "سلام" بالإسكندرية.. الثورة تمد لسابع جد
مها عفت.. أول من حَمل "علم الثورة" في الميدان
يحكى أن ''عبدالله'' هتف.. وشبرا كلها ردت وراه
''فنانة'' و''بتاعة سندويتشات'' و''مسؤول شواحن''.. أبناء ''أسماء'' في الميدان
القصة وراء صورة "ماجد بولس".. ياما في موقعة الجمل حكايات
في بورسعيد.. من الأم إلى ابنتها ''الثورة أبقى وأهم''
''فاتن حافظ''.. الثورة ''من طأطأ لـسلامو عليكو''
قاسم المزاز.. ''دليفري'' المستشفى الميداني
حكاية جمال العطار مع الثورة.. باع "البيزنس" واشترى البلد
للتحرير تفاصيل يعرفها "محمود نصر"
محمود جمال يكتب.. من دفتر مذكرات فلان الفلاني "اللي كان يومها ثائر"
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة للاشتراك ...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: