إعلان

جمعية مصطفى محمود الفلكية.. سلمٌ إلى السماء

06:38 م السبت 27 ديسمبر 2014

كتبت-إشراق أحمد:

عمره الداني من الثمانين ومرضه، لم يمنعاه من ممارسة ما عشق، النظر إلى نافذة الكون، عبر تلسكوب ماركة "زايس" الألمانية، الذي أحضره قبل سنوات، وأهداه للجمعية الفلكية التي أسسها، بالمسجد الحامل لاسمه في حي المهندسين بالجيزة، كان العام في الألفية الثانية، حين وقف بوجه هادئ كعادته، تمتد عيناه عبر العدسة، الموجهة نهايتها نحو السماء، لحظات ومع رؤية مراده بدأ يحاكيه "الله عليك يا زحل.. كم أنت رائع.. إيه الجمال والعظمة اللي أنت فيها دي"، تبعها وصلة من التسبيح دون أن تعدُ عيناه عنه، إلا بدعوة الثلاثة المتواجدين معهم بالغرفة لإبصار عظمة الخالق، أصغرهم كان طالب كلية العلوم، الذي ما تخيل يوما أنه بعد 14 عاما من ذلك التاريخ، سيتولى الحفاظ على ميراث سنوات من الشغف بعلم الفلك والفضاء، وهو الصامت في حضرة أبيه الروحي، الذي لا تأتي ذكرى رحيله أو مولده حال اليوم 27 ديسمبر، إلا وتشهد على أثر تركه مصطفى محمود لهواة الفلك في مكان غاب عنه لكنه لم يودعه.

فلك واحد

في قلب ميدان مصطفى محمود، بالمسجد المشهور المسمى على اسمه أيضا، حيث يتوافد المترددون بين مصليين، ومرضى يتلقون العلاج بالمركز الطبي المخصص في الأساس لغير القادرين، وأخرون يتبرعون للجمعية الخيرية، ففي فلك المسجد تدور الحياة كما أراد له الطبيب الكاتب منذ إنشاءه عام 1979؛ أن يكون مركزا لما اعتبره كيان واحد، يشمل الجوانب من الروح، الطب، الخير، وما كان ليغيب العلم، لذا شكل الجمعية الفلكية، والمتحف الجيولوجي.

أعلى سطح المسجد، فيما يرتل مرتادوه، ما تيسر من القرآن في حلقات، يسبحون بحمد ربهم، يتواجد عمرو عبد الوهاب –رئيس الجمعية الفلكية الحالي- منفردا أو بصحبة عدد من هواة الفلك، في ركن قصيّ، بحجرة يمين سلم الصعود، حيث تتجلى اللوحات المعلقة على الجانبين وقت اعتلائه، المتضمنة للتركيب التشريحي للشمس ودورة حياة النجوم، لتعبر عن هوية تلك الغرفة المتصدر بابها كلمات "الجمعية الفلكية"، فداخلها يُسبح أربابها أيضا بعظمة الخالق، لكن لا يفقه فعلهم إلا أصحاب الشغف وعاشقي التأمل في رحاب السماء الفسيحة، يتابعون الرصد للبقع الشمسية نهارا، أو أحوال الكواكب والمجرات ليلا، يتبادلون المعرفة في قاعة المحاضرات المجاورة للمرصد عن تاريخ الفلك، وغيرها من الموضوعات المتناولة في أول ملتقى  بالوطن العربي والشرق الأوسط لهواة الفلك.

شغف سليل آل محفوظ بالفلك منذ نعومة أظافره، النظر إلى السماء والتأمل بها، والكثير من الأسئلة التي تراوده، ما كان يوقفها سوى السفر في تفاصيلها، مع إتمام مصطفى محمود عامه الخامس عشر صنع أول تليسكوب صغير من عدسات النظارات، ونمىّ حبه لذلك العلم بالقراءة، وفور عمله بعد التخرج في كلية الطب، وبأول مبلغ يدخره اشترى تلسكوب، وكذلك فعل بعد أن ترسخ كيان المسجد؛ أنشأ الجمعية الفلكية عام 1981، وكرس ما يملك من أجل تطوير المرصد من شراء تلسكوبات وكاميرات وغيرها من الاحتياجات، كما كان يفعل للمسجد بالضبط، تلك العلاقة التي يصفها "كانت حكايتي مع الفلك ومع المسجد ومع الصلاة شيئا واحدا".

تلميذ على خطى المعلم

"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث.."، حديث يتجلى في مسجد مصطفى محمود، بدءً من الصدقة الجارية، مرورا بالعلم النافع، والولد الصالح، فما يتلفظ "عبد الوهاب" بكلمة إلا تبعها الدعاء لأستاذه بالرحمة، ملتمسا مما تعلمه منه، بلقاءاته به التي يحصيها عددا في 12 مرة؛ طريقا يسير فيه على خطاه، وهو الشغوف مثله بحب الفلك منذ صغره، ليكتمل قدره بمعرفة السبيل إلى الجمعية.

بالطابق الثالث لمنزل صغير، بقرية الشيخ فضل –بالمنيا- حيث "الطبيعة العذراء" كما يصفها "عبد الوهاب"، الذي كان في السادسة من عمره، حينما كان يجلس مع والدته، يتطلعا معا إلى السماء، فتسأله "إيه اللي بتنور هناك دي وتطفي"، فلا يجد الصغير إجابة لتساؤلات أمه، إلى أن حدثت المفارقة بتولي والده منصب مدير المكتبات بالإدارة التعليمية؛ كان يأتي بالكتب في أجوله قبل توريدها للمكتبات، فيتلقفها الصبي بحماس شديد، "مرة جاب 3 اشولة قعدت أنقي منهم الكتب.. كل اللي شاغلني أجاوب تساؤلات والدتي وأعرف الكون ده قد إيه" يحكي ابن الصعيد عن احتكاكه الأول بكتب الفلك وهدفه البِكر، وكان أول ما قرأه الموسوعة الفلكية.

اليوم يجلس الشاب الثلاثيني داخل المرصد، جوار ثاني تليسكوب اشتراه صاحب برنامج "العلم والإيمان"، وأهداه للجمعية التي يخلفه في رئاستها، يتذكر قريته الواقعة على أطراف الظهير الصحراوي، حينما دخلتها الكهرباء، وأصبح بالبيوت أجهزة تليفزيون، فتخلو الطرقات في تمام التاسعة مساء لمشاهدة برنامج معلمه، الذي تشكلت على يده الصورة الفلكية الأولى "وبقيت أجاوب والدتي اللي بتنور دي نجمة منها اللي ضوئه براق واللي بتلألأ" مبتسما يروي "عبد الوهاب" أول رد لسؤال أمه.

القراءة كانت ملاذ خريج كلية العلوم-قسم الفيزياء-، حتى وفد إلى القاهرة، فكان حرصه إلى جانب العمل والدراسة أن يبحث عن المتخصصين في دراسة الفلك، وفي عام 1998 كانت بداية معرفة "عبد الوهاب" بملتقى هواة الفلك، قدرا، توجه لمسجد مصطفى محمود لصلاة الجمعة، فور التسليم تراءى لسمعه حديث شخصين عن "اجتماع الفلك"، ليهرع إلى ذلك الاجتماع على الفور، لم يجد سوى خمسة أشخاص؛ محمد أحمد سليمان –رئيس قسم الشمس السابق بالمركز القومي للبحوث الفلكية وصديق مصطفى محمود المشارك له في تأسيس الجمعية- وأخرين من هواة الفلك "ومن هنا جاءت جولاتي مع الجمعية الفلكية".

وصية يوصى بها

لا يحتاج الرئيس الرابع للجمعية الفلكية خلفا لمؤسسها "مصطفى محمود" أن يتذكره في يوم ميلاد أو وفاة،  كافة أرجاء المكان المتواجد به صور له كفيلة بهذا؛ في كل دقيقة يمكث فيها، وقبضة يد على التلسكوب، ونظرة إلى السماء، التي عشقها الأب الروحي لـ"عبد الوهاب"، فكانت بالنسبة له دربا للعلم وسلما للخالق، شاركه به التلميذ، ليحذ حذوه، واضعا نصب عينيه رسالتين أوصى بهما "الناس تعرف العلم الصحيح أن الفلك مش تنجيم وأبراج.. اللي معهوش فلوس مش بيعرف يتعلم.. لازم توصلوا للناس دي".

القبة السماوية بمسجد مصطفى محمود بالنسبة له كانت سكن، يرتاح إليه، وكذلك الحال لأبنائه من هواة الفلك، فيها تعلم "عبد الوهاب" وقت أن كان الحضور لا يتجاوز عشرة أشخاص، ولا زال يفعل بالوقت البالغ عدد حضور إحدى الدروس العلمية ما بين 50 إلى 70 شخص حسب قوله، إذا تطور الأمر بالجمعية لعقد بروتكولات علمية مع نظرائها بالعالم، وتخصيص يوم الثلاثاء لعرض إحدى الأفلام الوثائقية عن الفلك، بالإضافة إلى استضافة العلماء والمتخصصين أمثال عصام حجي –عالم الفضاء المصري-، وتخصيص يوم أطلق عليه "اليوم الفلكي" من أجل تجميع الهواة "بيبقى يوم في الشهر للجمعية وفي السنة بالجامعات".

ومن أجل تنفيذ الوصية الثانية لمصطفى محمود بالوصول لأقصى الأماكن في مصر، خاض الشاب الثلاثيني تجربة "Astro trips"، وهي الخروج في رحلات بصحبة التلسكوبات "عشان نعلم الناس من ناحية ونبعد عن القاهرة الأسمنتية من ناحية أخرى" حسب قول "عبد الوهاب".

أثر المعلم لا يزول

يضغط "عبد الوهاب" على الزر المتواجد يمين باب دخول المرصد، فينفتح السطح وتنكشف السماء أمام التلسكوب، في مثل تلك الأيام من الشتاء، حينما يشتد الصقيع؛ تكتمل متعة أستاذ العلوم الذي خصص رسالته للماجستير في الفلك، إذ كان "الدكتور" –كما يطلق عليه- يأتي ويطلب أن يفتح التليسكوب ليرصد، فيتمكن الشاب من رؤية أفضل اللحظات بالنسبة له "لما بشوفه وهو ماسك التلسكوب وبيكلم الحاجة اللي شايفها"، على ما قال.

ليس صيت الجمعية الفلكية بقدر شهرة الجمعية الخيرية والمسجد، فكل من يرتاده لا يعلم بوجودها فيه، ولا كذلك بقدر معرفة الأعمال الأدبية لـصاحب "العلم والإيمان"، الذي عرفه "عبد الوهاب" هادئا قليل الكلام "يستنى اللي قدامه يتكلم الأول"، لكنها كانت الأقرب إلى قلبه، فإن تعلق الأمر بطلب لشباب الفلك، لا يحتاج كثير من الكلمات حتى يهم بالتلبية، وهنا يتذكر ابن المنيا أكثر المواقف التي لا ينساها لمعلمه، عام 2006 حيث الكسوف الكلي للشمس في فترة هي الأطول التي تمر على مصر، والذي كاد يفقد "عبد الوهاب" واثنين من زملاءه الأمل في رصد هذا الحدث، بعد إخبار الدكتور "سليمان"-رئيس الجمعية وقتها- أن الأمر صعب، للإجراءات الأمنية المشددة نظرا لحضور رئيس الجمهورية، لكن بمجرد أن أخبر الشباب "مصطفى محمود" بالأمر قال " إن مكنش أنتو تطلعوا مين اللي يطلع"، ثم اتصل هاتفيا بمحافظ مطروح.

في عربة "مصطفى محمود" الخاصة طراز "4×4" التي أصر أن تقلهم، انطلق أبناءه من هواة الفلك إلى هضبة "مارماريكا" بالسلوم، ليشهدوا الكسوف بعد 13 ساعة سفر جوار فريق وكالة ناسا، ووكالة الفضاء الأوربية، في مفارقة عجيبة، حيث لم يتمكن أساتذة الفلك من جامعة القاهرة وقتها من الصعود للهضبة التي تبلغ 800 متر فوق سطح البحر، "أحنا كنا فوق رصدنا وصورنا وكنا على بعد حوالي 60 من مبارك رئيس الجمهورية وقتها" يحكي "عبد الوهاب" عن ذلك اليوم، الذي كان حال المسيرة التي بدأ بها علاقته بالفلك؛ عجيب في تدبيره.

النهاية والبداية

31 أكتوبر 2009 رحل "الزاهد، العالم، العابد، الفقير، الغني" كما يحب أن يدعوه "عبد الوهاب"، في هدوء حال حياته وافته المنية عن عمر 88 عاما، حزنٌ اعترى الشاب الدائم الحرص على الصمت "في حضرة مصطفى محمود" كما يفضل كذلك أن يصف، لدرجة منعته من طرح أسئلة ألحت عليه، فذهب الأستاذ وظلت الإجابة غائبة عن تلميذه، "هو إزاي بقى كده؟" تمنى لو تملك الشجاعة يوما ليعرف منه الكلمات التي يكتبها إن وضع نظرية لخلق الكون مثل "هابل"، العالم الذي حدثهم عنه ليوضح مدى الترابط بين الفلك والدين، ذلك الواضع لقانون يوضح اتساع الكون بدرجات معروفة فيما يخبرهم أن يتفكروا بعظمة الخالق في آياته "والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون".

لم يطوِ عن الشاب "عبد الوهاب" الأسى لرحيل المعلم، سوى استغراقه في التحضير لتجهيزات اتمام زفافه، وهى الفترة التي انقطع فيها للمرة الأولى عن الجمعية منذ 12 عاما، عام ظل يذهب فيه مرة كل شهرين، حتى 25 يناير 2011 قرر التوجه للجمعية، ما أن مكث ساعة حتى تبدلت الأحوال في البلاد بنشوب الثورة، عاد لمنزله مقررا العودة يوم الجمعة في الميعاد المعتاد لانعقاد اجتماع الجمعية الفلكية بعد الصلاة.

ظهيرة 28 يناير 2011 تغيرت الأحوال ليست في البلاد فقط، بل في حياة "عبد الوهاب" الذي استقرت مجلس إدارة الجمعية على توليه رئاسة الجمعية الفلكية، ليتم إبلاغه بعد أن هدأت الأمور، ليواصل المسيرة في المكان الذي كان بالنسبة له "مغارة على بابا وانفتحت"، لازالت صورة أول رؤية له عبر التلسكوب لحلقات "زحل" تثير البريق في عينيه كلما تذكر "اللي كنت شايفها نجمة طلعت كوكب"، لا يؤرق حلمه في أن تصبح جمعية مصطفى محمود الفلكية في المصاف العالمي كمركز لالتقاء الهواة سوى الإمكانيات المادية من ناحية، والإجراءات المانعة لشراء التلسكوبات "أيام مصطفى محمود كان يقدر لأنه حد ثقة ومعروف لكنه مستحيل دلوقتي لأنه غير مسموح بدخولها مصر للأفراج"، فكل ما يستعين به الهواة هو ميراث الأستاذ الذي تركه للجمعية من أجهزة.

لا يتوقف "عبد الوهاب" عن الحلم من أجل الجمعية، وسعيه لإنجاز خطوات تحقق نجاحات صغيرة، كضمه للمتحف الجيولوجي المتواجد بالدور الثاني للمسجد إلى الجمعية، لتشمل الفلكيين والجيولوجيين، ذلك المتحف المتضمن لحفريات ونماذج كلفت "مصطفى محمود" السفر لأنحاء كثيرة من العالم للحصول عليها، ينظر رئيس الجمعية للصور المعلقة بتقنية "3D"-المجسمة- المنفذة في التسعينات بأيدي هواة الجمعية، ويتمنى أن يعود للمكان بريقه، فيتوافد الجميع كبارا وصغارا ليروا العلم في مكان مفتوح الأبواب.

 

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة للاشتراك ...اضغط هنا

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان