إعلان

"التنكيد" على إسرائيل "فن" تعرفه فاطمة البرناوي.. "الحلقة الثالثة"

09:18 ص الخميس 26 مارس 2015

كتب-أحمد الليثي ودعاء الفولي وإشراق أحمد:

في السجن تاريخ؛ مرت به الأسيرة المحررة تباعا، أغلبه سيء، وجزء يسير منه كان يلطف الأجواء الصعبة، ماتت والدتها بينما هي بالداخل، وكذلك الرئيس جمال عبد الناصر عام 1970، سيق الخبر إليها داخل الزنزانة، كان كصاعقة، عرفت والأخريات بخبر الوفاة من التلفاز الموجود بالسجن، والذي لم يكن يعمل إلا بإرادة السجانين "كانوا حاطين قفل على التلفزيون، مكنش بيشتغل إلا على الأخبار الوحشة عشان يضايقونا"، لذلك تلقت الأسيرات الخبر، ولم يكن منهم إلا إعلان الحداد سبعة أيام على وفاة الرئيس.

في الحلقة السابقة: وفاة والدة فاطمة ومقالب السجن.. محاولات الهرب بمغرفة وملعقة، والصمود بالإضراب

ثلاثة أعوام انقضت، كأن الله أراد جبر كسر الأسيرات؛ فأرسل إليهن تاريخًا لا تنساه "فاطمة"؛ السادس من أكتوبر 1973، تأخذ شهيقا عميقا ممزوجا بابتسامة قبل أن تحكي كواليس انتصار الجيوش من داخل سجنها "كنت اليوم ده في المطبخ ولأنه صيام، فكنت أطبخ اللي بدهم إياه.. فجأة على الساعة 2 وربع لقيناهم بيسكروا علينا المطبخ وقالولنا ادخلوا أماكنكم بسرعة"، اعترضت "فاطمة" غير عالمة بما يجري في الخارج "قولتلهم راح يجي موعد الأكل وهكون مش مستعدة"، أمرهم بعض قادة الجيش بالركوع على الأرض، ووضع الأيدي خلف الرؤوس "لحد تلك اللحظة كنا فاكرين إن حد جاي ياخدنا من السجن.. في شو راح يفكر المسجون غير هيك؟".

بعد قليل ارتفع علم أسود في ساحة السجن، تناثرت الشتائم وصولا إلى أذن "فاطمة" والسجينات الفلسطينيات من قبل الإسرائيليات "قعدوا يقولونا غدرتوا بينا وخدعتونا واحنا صايمين"، تيقنت "الخالة" أن الوضع أكبر من هجوم على السجن، صارت جملة "هادول المصريين غدرونا واحنا صايمين" أجمل شيء سمعته في سنوات السجن، كانت المعنويات بالسماء عندما عرفن أن الطيارات المصرية والعربية تضرب بلا هوادة، حتى جاءهن خبر عبور القوات المصرية قناة السويس "كان أكبر نصر لينا.. مبدناش نهرب بعد اللي سمعناه".

يوم 6 أكتوبر كان مرهقا على ابنة آل البرناوي، رغم الأعصاب المشدودة، لكنها خرجت منتصرة، يكفيها نظرات الرعب في عيون السجّانات، توتر القادة، وحالة الطوارئ "كانوا يحطوا بطانيات على الشبابيك لما يحسوا إن فيه خطر وأنا كنت أطمئن ولما يشيلوها كنت أزعل لأني بحس إن الخطر ابتعد" كذلك كانت الكهرباء تنقطع وقت خوف الصهاينة وتضوي حين ابتعاده قليلا.

صباح النصر كانت وطأة الحرب محتدة، إدارة السجن تفعل ما بوسعها لتقليل خسائر الإسرائيليين "صاروا يجيبوا أمهات الأسرى اليهود معانا بالسجن، كانوا مهزوزات، فاكرة واحدة منهم كانت بتقول مبدناش الحرب، لو قالولي ابنك يروح الحرب كنت أقولهم لأ.. كل ده عشان الأرض؟ ما احنا أخرتنا للأرض"، نشوة "فاطمة" كانت مرتبطة بالنصر العربي فقط على إسرائيل، لم تعلم أنها ستتحرر من السجن بعد اتفاقية كامب ديفيد، ضمن خطوات إثبات حسن النية من قبل المحتل الإسرائيلي.

خُلق "فاطمة".. وأساتذة المقاومة

ثبات "فاطمة" وخلقها الثوري لم يأت من فراغ، فهي لا تتعامل مع النضال على إنه إرث خاص بها، ولا بطولة منفردة، أو صيت تعتز به، هي مجرد شخص في سلسلة مهمتها الذود عن القضية، لذا تحفظ عن ظهر قلب أسماء مناضلات سبقتها، لم يكن بالضرورة أصحاب عمليات جهادية إنما كن مناضلات كلٌ على طريقته؛ فمن "نايفة عاقلة" صاحبة روضة الأطفال التي أخذت على عاتقها تثبيت دعائم القضية في عقول وقلوب الصغار وعن المحتلين ومزاعمهم "التقيت بها في السجن وتعلمت من روعتها"، مرورا بـ "إخلاص علي" تلك البدوية التي كانت ترسل الخرائط للسوريين كي يعرفوا خطط الأعداء ويفشلوها ويدبروا عملياتهم الاستشهادية ضد الإسرائيليين، وصولا إلى "حياة البلبيسي" التي داوت جريحا إسرائيليا فقتلها أصدقاؤه الجنود بعدما فرغت من مهمتها.

فاطمة سر أبيها، تشربت المقاومة على يديه، عوّدها على الدفاع عن أرضها بكل ما أوتيت من قوة، لم يقف ضد رغبتها في سلوك طريق المقاومة حتى لو كان آخره أسر، أو موت، مرارا قال لها بعد عام 48 "احنا لازم ننتصر ع دول رغم كل شيء"، يحكي مستبصرا عن الجيوش العربية التي ستقف ضد الاحتلال قريبا من المسجد الأقصى "ويصير الدم للخلخال"، ثم تنتصر.

لا تهتم "فاطمة" بمن يقول إن ما تفعله المقاومة الفلسطينية إرهاب، بل المحتل هو من يروع أصحاب الأرض؛ فكيف يمكن ردعه سوى بالوقوف ضده بشتى الوسائل؛ السلاح، الكتابة، الكلام وحتى الفن، تتنفس الأسيرة المحررة النضال، ردها الجاهز دائما "انت جاي تحتلني.. مش بدك ادافع عن أرضي؟" تقولها باستنكار، يطرق ذهنها حال نساء بورسعيد عام 1956، حينما خرجن بما لديهن من "حلل"، "إيد هون"، وكل الأدوات الأخرى، التي على بساطتها أثبتت أن المقاومة موجودة في نفوس المظلومين "اللي بيتاخد بالقوة مبيرجعش غير بالقوة".

لا تنافق المناضلة الآخرين ولو قيل عنهم "أبطال"، تقول رأيها صريحا في أيا مَن كان، تستنكر أفعال بعض القادة الفلسطينيين، تأخذ عليهم ابتعادهم عن أرض فلسطين حين كانت في حاجة لوجودهم. حينما تأتي سيرة الحرب الأخيرة عام 2014 على غزة، تشدد على أن الفصائل الفلسطينية كلها حاربت "سواء جبهة شعبية أو ديمقراطية أو فتح وحماس"، فوقت الحرب تنصهر الخلافات بين الفصائل.

لم تنس سليلة آل برناوي لقائها بالشيخ أحمد ياسين، زعيم حركة حماس، تكن له التقدير رغم أنها "فتحاوية" حتى النخاع. بأحد المناسبات "قال لنا وقتها حضروا حالكم عشان عملية.. فقولت له احنا عملنا خلاص.. اعملوا انتوا"، قالت مداعبة إياه، تقبل المزحة بروح خفيفة، وكانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي التقيا فيها.

رغم مرور قرابة 66 عاما على إدراك "الخالة" لكمة الشتات، غير أن هذا لم يمنعها من أن تأن لحال شعبها المتبعثر بين البلدان، وما يسببه ذلك من انسلاب مظاهر الهوية، للتطبع بحياة الشعوب المقيم بينها، فأينما ذهبت حملت هم يملأ النفس فترددها جلية "الفلسطينيين مش بيعانوا بس من الاحتلال لكن كمان من أخوانا العرب".

الحلقات السابقة:

فاطمة تزلزل إسرائيل بحقيبة يد وأغنية لأم كلثوم.. "الحلقة الأولى"

كيف هزمت ابنة البرناوي إسرائيل بحذاء الكعب العالي؟ "الحلقة الثانية"

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان