إعلان

بين الشعارات والأغاني

د. ياسر ثابت

بين الشعارات والأغاني

د. ياسر ثابت
07:06 م الإثنين 30 يناير 2023

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

قليلة هي الكتب التي تجد فيها متعة التحليل الفني وثراء الربط بين الفنون المختلفة، مع أبعاد فكرية أكثر عمقًا من السائد والمألوف.

وفي كتاب "من السياسة إلى الفن"، اجتمع جهد باحثين مرموقين، هما د.إيناس دياب ود.أسامة القفاش، لتقديم كتاب مختلف في مضمونه وثري في أفكاره إلى حد كبير.

الشاهد أن المكتبة العربية تفتقر لهذا النوع من الكتب الذي يجمع بين الأبعاد المختلفة، أي البعد التاريخي الذي يبحث في قصة الشعار وكيف ظهر وكيف تحوَّل إلى عمل فني، والبُعد الفلسفي الذي يُقدِّم تعريفات واضحة لمفاهيم محددة لكي يتم التعامل معها بجدية، والبُعد الفني الذي يقدِّم معلومة عن بنية العمل الفني في ذاتها.

ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام رئيسة، القسم الأول يحتوي على مجموعة أغانٍ وأناشيد كانت أصلًا شعارًا وتحوّلت إلى عمل فني، ويقدِّم المؤلفان في كل أغنية قصة النص مع تحليل نصي سريع لكلمات النص وكيف تحوّل الشعار إلى عمل فني.

في مرحلة تالية، يقدّم الباحثان تحليلًا موسيقيًا مبسطًا ليس للقارئ المتخصص، يتضمن النوتة الموسيقية وتبسيط اللحن وملاءمته للكلام والشعار.

في هذا القسم اختار المؤلفان أناشيد من مصر وتركيا ويوغوسلافيا وإيطاليا وأمريكا.

في القسم الثاني تتناول د. إيناس مع د. أسامة، بنفس المنهج أي التحليل النصي المبسط والعرض التاريخي السهل والتحليل الموسيقي مجموعة من الأناشيد القومية الشهيرة التي كانت شعارًا سياسيًا، مع تحديد النشيد القومي باعتباره النشيد الرسمي للدولة. واختارا مجموعة من الأناشيد القومية من فرنسا والجزائر ومصر وألمانيا وأخيرًا النشيد القومي للاتحاد السوفييتي السابق الذي كان أصلًا نشيدًا للأممية الاشتراكية.

القسم الثالث يتعامل مع الموسيقى الخالصة، وهنا يتكلم المؤلفان عن سيميولوجية الموسيقى وكيف يتجاوز النص المسموع الموسيقي الخالص أجواء الإمتاع المباشر ويؤدي غرضًا تواصليًا. وفي هذا الجزء نتابع في الكتاب السيمفونية الرابعة لبيتهوفن وقصتها وتحولاتها وأعمال شوبان المشهورة باسم البولنديات، وأهميتها في التعبير عن شعار سياسي محدد ومن ثم يقدِّمان عملًا من أعمال فاجنر الذي يتحدث عن الروح الألمانية الخالصة كما عبَّرت عنها أوبراته الشهيرة، وأخيرًا يحلل الكاتبان عملًا مصريًا خالصًا هو القصيد السيمفوني مصر للمؤلف الموسيقي المصري يوسف جريس.

في النهاية، يطرح المؤلفان فكرة أن تحوّل الشعار السياسي إلى عمل فني هي فكرة شائعة في كل العصور وتظهر في فنون مختلفة وليس فقط في الموسيقى والفنون السمعية.

من الأمثلة الغنائية التي يحللها الباحثان ويسوقانها للدلالة على تحول الشعار السياسي إلى عمل فني: "يا بلح زغلول" من تأليف محمد يونس القاضي، (هناك مراجع تقول إن الأغنية من تأليف بديع خيري)، وتلحين سيد درويش وغناء نعيمة المصرية.

وفيها سنجد تحوّل شعار الثورة المصرية عام 1919.

نطالع في الكتاب: "تحويل اسم سعد زغلول إلى نداء على البلح كان هو العنصر الحاسم وتحول الشعار المرحلي إلى عمل رائع سجل على أسطوانة.

"وهنا سنجد مثالًا واضحًا من الفنون السمعية على هذا التحول. ويجدر بنا القول إن الفنون السمعية هي من أكثر الفنون التي تحوِّل الشعار السياسي إلى عمل فني، ربما لسهولة التأثر وسهولة الإنتاج والاستخدام وسرعة التأثير الجماهيري".

في مثال آخر يحلله المؤلفان، يتحدث الكتاب عن "بيلا تشاو" أو "سلامًا أيتها الجميلة"

Bella Ciao أغنية شهيرة واكتسبت شهرتها من كونها جزءًا من المسلسل الناجح الإسباني "سرقة الأموال" Money heist أو بالإسبانية La casa de papel. حوّلت الأغنية شعار البارتيزان أو الثوار في إيطاليا ويوغوسلافيا بالذات في حربهم ضد الفاشية، وهو شعار: "الحرية أو الموت"، إلى أغنية غناها المطربون في كل زمان ومكان.

تحكي الأغنية قصة شاب صغير يقرر أن يذهب مع البارتيزان أو المناضلين الوطنيين لمكافحة الفاشية ودحرها، ويرسل أغنية على سبيل توديع حبيبته الجميلة، قائلًا لها إن الحرية أهم من كل شيء وإنه إن مات فعليها أن تدفنه على قمة الجبل ليتحول إلى زهرة تصير مزارًا للناس للإعجاب بجمالها وتذكرهم بالانتصار الحتمي على الفاشية.

"بيلا تشاو" نشأت من أغنية شهيرة من أوائل القرن العشرين للتنديد بظروف عمل جامعي الأرز في الحقول. لم تكن أغنية معروفة للغاية إلى أن غناها مقاتلو المقاومة.

"بيلا تشاو" هي أغنية احتجاجية تصاحب عمل النساء تحت الحرارة ومضايقات المشرفين في الجمع الموسمي للأرز.

يتطرق الكتاب إلى نموذج آخر، هو نشيد "الله أكبر" من نظم الشاعر عبدالله شمس الدين.

كان من المقرر أن تذهب أغنية «الله أكبر» إلى الفنان كارم محمود، وراح الملحن محمود الشريف يبحث عنه ولكن لم يجد له أثرًا. مرت أيام وكارم محمود مختفٍ تمامًا، فشكا الملحن محمود الشريف لصديقه العازف عطية شرارة، فعرض عليه الأخير أن ينقذ الموقف، بتعديل في اللحن لتؤديه المجموعة. وبالفعل غنت المجموعة «الله أكبر فوق كيد المعتدي»، وصار أشهر الأناشيد الوطنية ليس في مصر وحدها وإنما في الوطن العربي كله، حتى إن ليبيا تبنته كنشيد قومي في فترة إلغاء الملكية.

أيضًا سنجد نشيد البحرية العثمانية الذي كان يسبق المعارك هو تحويل لشعار «الله أكبر» إلى عمل فني تحفيزي.

هنا يمكننا أن نقارن بين العملين، فالدولة العثمانية تُحوِّل الشعار الهجومي «الله أكبر» إلى نشيد للجيش يمجد انتصاراتها.

أما في مصر، فإننا نرى «الله أكبر» يتحول إلى عمل فني مقاوم ضد العدوان الثلاثي. وهي المقاومة المسلحة التي شاركت فيها كافة القوى السياسية المصرية بلا استثناء.

الجدير بالذكر أن «الله أكبر» قد فاز بأعلى الأصوات في استفتاء النشيد القومي المصري، لكنه رفض واختير نشيد آخر هو «والله زمان يا سلاحي» وهو أيضًا من الأغاني الحماسية المهمة، خاصة أنه بصوت كوكب الشرق أم كلثوم.

تحوَّل الشعار في الحالتين إلى عمل فني حماسي استخدمه المصريون لمكافحة العدوان وتحفيز المقاومة. واستخدمه العثمانيون لتحفيز الجنود فكلمات «الله أكبر» العثمانية تقوم على أساس أن الجيش هو أعظم جيش، وهي وصفية أكثر منها حماسية، فالأغنية تتكلم عن حمل السلاح والدرع لضرب العدو.

في المقابل، نجد الأغنية المصرية تتكلم عن رد الاعتداء، مع تأكيد أن النصر حليف الشعوب.

وتعد أغنية "هذه الأرض أرضي" لوودي جوثري، من أهم الأغنيات الحماسية في تاريخ الولايات المتحدة.

في كتابه المهم "لماذا تحتاج الموسيقى والرقص لعلم المعاني؟"، يقول البروفيسور البيروفي خوان فيليب ميراندا مدينا "إن الراقص والموسيقي وكل المؤدين يحتاجون إلى تعلم وفهم علم المعاني أو السيميوتيكس".. وهذه الأغنية هي أكبر دليل على ذلك.

الأغنية من أشهر أغنيات المغني الأمريكي وودي جوثري، الذي يقدّم رؤيته لقضايا تخص الولايات المتحدة في تاريخها وتحولاتها المختلفة.

"من السياسة إلى الفن" كتاب يستحق القراءة والتفكر في تفاصيله الثرية التي تفتح أمامنا أبواب عالم كبير يربط بين الأنساق المختلفة.

إعلان

إعلان

إعلان