إعلان

ذكرى داليدا.. هل نقتل أخرى؟

أشرف جهاد

ذكرى داليدا.. هل نقتل أخرى؟

أشرف جهاد
03:51 م الثلاثاء 17 يناير 2023

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"أنا أعيشُ كأنني خالدة

أعيش على الحب والضحك

لدي متسع من الوقت لكتابة مذكراتي

اتركوني أرقص دعوني

اتركني.. أذهب إلى نهاية الحلم"

17 يناير.. يكون قد مر تسعون عاما على ميلاد "يولاندا كريستينا جيجليوت"، الفراشة "داليدا" التي قتلها العالم بحماقاته.

غنتها بشغف: "اتركني.. أذهب إلى نهاية الحلم"، لكنها ذهبت إلى العالم الآخر. لا شك أنه كان حلما لها، لذا غنت له قبل الرحيل الغادر وتمنت "الموت على خشبة المسرح" لكنها عوضا عن ذلك ماتت وحيدة منتحرة.

**

تجلدني ذكريات داليدا سنويا مرتين ميلادا ورحيلا. وتوجعنا الفراشات كل يوم؛ يقتلها حمقى لجمالها وضعفها!! ولا يعدمون المبرر. فكم من داليدا مشهورة وغير مشهورة يشترك في قتلها العشاق والأعداء والإعلام والجمهور؟!

في قاموس داليدا العربي، الحياة تنطق الحيات بالتاء المفتوحة. وفي حياتها، كما غنائها، فتحت ذراعيها للحياة، فحاصرها الموت. خلدت أحبائها، فاختاروا الفناء والاحتراق. كانت وهجا ونارا ونشوة ونزقا خالصا من الحب وللحب، وكانت الحياة ماء وجليدا ووحدة قاتلة.

"يومٌ بعد يومِ، الحياة تنزلق بعيدًا".. هكذا صدحت داليدا مبكرا، قبل الرحيل، استغاثة من يعلم بنهاية الطريق. فهي لم تكذب على نفسها يوما، كانت تدرك كل أخطائها. كانت تعلم أن كل عشاقها خيالات مآتة، فزاعات جوفاء، ناموس جذبته الشهرة، وجراد شره لا يهتم بمشاعر المحبة قدر اهتمامهم بشهرتها وثروتها. لذا غنت معترفة مبررة قرارها بالارتباط بالعشاق الثلاثة الكاذبين في Pour ne pas vivre seul:

"كي لا نعيش بمفردنا

أحبك وانتظرك

لنملك الوهم

الذي يحتم علينا عدم العيش بمفردنا

كي لا نعيش بمفردنا

أنا أعيش معك

أنا وحيدة معك

أنت وحيدٌ معي

كي لا نعيش بمفردنا

نعيش ككل الذين يريدون

أن يوهموا أنفسهم أنهم

لا يعيشون وحيدين"

مع هذا لم يتوقف الحمقى والأقارب والإعلام عن جلدها مع كل قصة حب وفشل، لم يتوقفوا عن جلدها وهي تحب أو وهي تترك، حتى وهي وحيدة.

هكذا كانت الوحدة الوجع الأبدي الذي اضطر داليدا للارتباط بثلاثة رجال، أولهم تعلق بها مهنيا، فكانت له المطربة الذهبية التي تقدر كلمات أغانيها بالذهب، وثانيهم كان مراهقا خطفه وهج شهرتها، أراد الفتاة الذهبية، وآخرهم كان نصابا بالفطرة يريد امتلاكها كالأطفال. أوجعها الثلاثة في علاقتهم بها، وأوجعوها أكثر بانتحارهم تلو الآخر، ليكتمل حصار الموت لها.

التجارب كانت موجعة بقدر الوحدة، حتى أن داليدا استغاثت من تجربتها الأولى صارخة في "je suis malade": "حرمتني من غنائي، أفرغتني من كل كلامي، رغم أني كنت أؤمن بموهبتي.... هذا الحب سيهلكني، إذا ما استمر الحال.... ألا تفهم.. أنا مريضة"

*

كانت داليدا تعلم تماما ما تريد. ما يمكن أن ينقذها من مصيرها المؤلم، وجه طفل يغير حالها، يبدل شعورها مرة واحدة وللأبد.

لكن حينما جاء الطفل، اتخذت قرارها الموجع، بالإجهاض. خافت المجتمع والصحافة، فالأب في نصف عمرها، ولن يرحمهما أحد. كما أنها لم ترغب أن تضع الشاب في هذا الموقف. تسرعت، وفي العملية، تضررت قناتا فالوب فلم يعد بإمكانها الإنجاب، وذهب طوق نجاتها إلى الأبد.

"تعال

ولكن ليس حين أصبح وحيدة.

تعال قبل أن تسقط الستارة

أريدها أن تسقط ورائي"

لم يكن في وسعها إلا العودة، إلى أي رجل يمكن أن ينقذها، بحثت بين محبيها، وفي دفاترها القديمة. فتشت عن وطن الميلاد، وأول حب، بحثت في حياتها عن طوق إنقاذ فلم تجد، فاختارت خيارها الأخير.

أنا التي اخترت كل شيء في حياتي

أتمنى أن أختار طريقة موتي

هناك من يحب أن يموت تحت المطر

وآخرون تغمرهم الشمس

وآخرون يريدون أن يموتوا في أسرتهم، وحدهم

بهدوء كما لو أنه النوم العميق

أنا، أريد أن أموت على المسرح

قلبي مليء بالألوان وأنا أغني...

أريد أن أموت دون أي ألم

أريد أن أموت على المسرح

وأنا أغني حتى النهاية

حياتي احترقت تحت كثير من الأضواء

فلا أريد أن أرحل في الظل

أريد أن أموت بالليزر في صالة كاملة العدد

أموت دون أي ألم

بموت تم تنظيمه بأوركسترا محكمة

أريد أن أموت على المسرح

فهكذا تمت ولادتي

*

مزج ختامي لجريمة لم تنته بعد

تقول رواية غسل يد العالم إن داليدا ماتت منتحرة، وتقول أغانيها وسيرتها إنها قتلت مبكرا جدا، قبل 3 مايو 1987، وإن مكان وفاتها لم يكن باريس فقط، وإن داليدا ليست الأولى ولن تكون الأخيرة.

ويقول واقعنا إن مجتمعنا الأحمق ربما يتورط حاليا في صنع داليدا أخرى. وأنه لا يهتم كثيرا لتحطم الفراشات وتصدع أركان أرواح أشبعتنا بحبها للحياة وإقبالها عليها وربما بغنائها وصوتها البهي.

إعلان

إعلان

إعلان