إعلان

"جاليريا".. اللون كتعبير عن مختلف أحوالنا

"جاليريا".. اللون كتعبير عن مختلف أحوالنا

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 28 فبراير 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لو تخيلنا أن الأبيض والأسود وما بينهما من درجات، هما فقط اللونان اللذان يصبغان كل شيء حولنا، فإن شكل الحياة، أو منظرها، أو هيئتها، كان سيكون مختلفاً جدًا. ربما يصير العيش أكثر هدوءًا، لكنه، من دون شك سيفقد الكثير من البهجة التي تضفيها الألوان على حياتنا، ليس لأنها تصنع أمام أبصارنا مناظر متجددة، بل لأن كل لون صار مرتبطاً في ثقافتنا ووعينا وخبرتنا بمظاهر وقيم وأحوال نفسية، وطقوس بشرية، وتجليات اجتماعية، وكثير من هذا صار متعارفاً عليه بين الناس في كل مكان، بغض النظر عن اختلاف الهويات الدينية والثقافية، والخلفيات الطبقية والجهوية والمعرفية.

وعلاقة الألوان بالخبرة والثقافة والمشاعر والانطباعات والميول والانحيازات والإدراكات جعلت منها موضوعاً للفن، بمعناه الواسع، غير مقتصرة في دورها هذا على الفن التشكيلي بمختلف صوره وأشكاله.

وكثيراً ما حاول الأدباء أن يكتبوا قصائد، أو قصصاً، أو قطعاً نثرية تعبر عن لوحات خالدة مثل "الموناليزا" لدافنشي، أو "لوحة التشريح" لرامبرانت، وبعض هذا تم جمعه في كتب، رأينا فيها اللوحة، وفي مقابلها تعبير كلامي عنها، شعراً أو سرداً، لا يصفها بالضرورة، إنما ينطلق منها إلى معانٍ أوسع.

لكن تأثير اللون على تنوعه في الأدب جاء أبعد من هذا، إذ تناثرت الألوان وحمولاتها الثقافية والمعرفية في الكتابات الأدبية، ولم تخل أي منها من تأثر باللون، وكان هذا لافتاً إلى درجة أن البعض قد لاحظ غياب الألوان في كتابة العميان، لأنهم لا يعرفونها.

دارت هذا المعاني في رأسي وأنا أطالع المجموعة القصصية للكاتبة المصرية مروى عليّ الدين، الصادرة عن "دار العين" بالقاهرة، وأعطتها عنواناً دالاً في هذا المضمار، هو "جاليريا"، فقد وجدت أمامي نصاً وقع في فتنة الألوان وغوايتها، حتى إن القصص كلها أخذت عناوينها اسم لون، ثم تم توظيفه في التعبير عن رؤية الكاتبة للحياة بمجملها، من حيث الحياة والموت، والمحبة والكراهية، والوفاء والغدر، والوصال والهجر، والتسامح والتعصب، والحرية والقهر، ثم التعبير بدرجة أعمق عن مشاعر المرأة حيال الرجل، إذ تتوسل بالألوان في تحايلها وإطلاق طاقة الذكاء الفطري، أو حسها الأنثوي، في التعبير عن عواطفها المشبوبة بالفرح والحزن، والرغبة والزهد.

لهذا كان من الطبيعي أن تحضر الطبيعة بقوة في هذه المجموعة متمثلة في الشمس والقمر والشجر، والبحر والسماء، والنباتات، وثمار الفواكه والخضراوات والمشروبات والمحار، وأثاث البيوت والثلج.. الخ. وتناثر كل هذا في ثنايا المكتوب الذي توزع بين قصص وحكايات وخواطر، وما يشبه القصائد النثرية، علاوة على النصائح والحكم والأمثولات والرسائل والبوح، وما يحض على تربية الإرادة والتفاعل الخلاق مع معطيات الحياة، وهو ما تم التعبير عنه في جمل منفصلة متصلة داخل النص، لتصنع بنية كل قصة أو أقصوصة أو خاطرة.

وقد حاولت في قراءة هذه المجموعة أن أجد علاقة بين العنوان/ اللون، وما جاء تحته، في تأويل قد لا يخلو من التعسف أحياناً، أو يراعي التطابق والتماثل أحياناً. ويبدو أن الكاتبة قد تعاملت مع هذا بوعي ودربة، لتقول لنا إن الألوان لديها لم تطلق جزافاً كعناوين لأجزاء نصها السردي، المتراوح بين تدبير وعفوية، وإقدام وإحجام، وانبساط وانقباض.

ففي قصة الأحمر، وجدنا حالات من الشغف والغضب، ورأينا موضعاً للنار، وأحمر الشفاه، والتفاح. وفي قصة الأبيض وجدنا البراءة التي يخاطب بها طفل "سانتا كلوس"، ويرسل إليه خطابات منتظراً أن يرد عليه دون جدوى.

وتحت اللون الأسود وجدنا حالات من العنصرية والجوع والبرد، والضغينة، والشذوذ، والإلحاد، وكلها حالات قاتمة في نظر الكاتبة.

وجاء اللون الرمادي كتعبير عن طفولة حائرة متسائلة لا تستقر على يقين أو مطلق، ولا تعرف اكتمالاً لمعرفة أو إدراك، ولا تحسم نظرتها إلى الحياة.

ووظفت الكاتبة اللون الأزرق في التعبير عن لصوص الليل، وعقد الذنب، ربما لأن الأزرق في قتامته قد يكون مرتبطاً في نظرها بالضياع والشعور الدفين بالأسى، فيما وظفت الأخضر في التعبير عن الكسل والخجل، وهي مسألة لا تبدو فيها الكاتبة مطابقة بين اللون والحالات النفسية، مثلما هو الحال في الألوان السابقة، لأن الأخضر تعبير عن النماء والانبساط والبراح والحيوية.

وفي اللون البرتقالي حضرت الشمس، وحضرت في البني أيضاً ومعها النمل والأسنان الخربة المثرمة المتآكلة التي فقدت بياضها بفعل مشروبات، أو كيوف، أو إهمال، بينما حضر القمر في اللون الفضي، وحضرت المرايا في اللون الذهبي.

وتساوقت الكاتبة مع ما نعرفه من وظيفة للون البنفسجي، فعبرت به عن الكآبة والضجر. وخرجت في تعاملها مع اللون الأصفر عن الحالات النفسية لتعبر به عن أشياء مباشرة مثل البطاطس والبطاطا، وعادت في اللون الوردي إلى دخائل النفوس وما تجود به الأذواق، فجاء معبراً عن الحلم والقرب من الحبيب، بل الحب أو العشق نفسه.

وخصصت الكاتبة أكثر من قصة في مجموعتها للون الرمادي، وكلها بدت شلالاً من الأسئلة والأخيلة، التي تركتها للقارئ كي يجيب عنها، فربما تساعده إجابته، إن استوفت شروط السلامة، على الخروج من المنطقة الرمادية إلى براح الوصول إلى فهم أو إدراك أو معرفة جلية، ليس بها غموض، مستقيمة ليس بها اعوجاج، مستوية ليس بها انبعاج.

فلما جاءت الكاتبة إلى "قوس قزح" المكون من ألوان عدة متدرجة، تركتنا لنعرف به بعض تقلبات أحوال الحياة، وما يطرأ عليها من اختلاف ومغايرة.

لقد اختارت مروى عليّ الدين موضوعاً واحداً لمجموعتها القصصية تلك، وهي مسألة ليست مألوفة في اللون الأدبي، إذ يحرص أغلبية الأدباء على أن تتنوع الموضوعات التي تدور حولها قصصهم، لكن تظهر وحدة الموضوع في المتتاليات القصصية، وليس هناك ما يمنع أن تكون في مجموعة قصص، فالمهم هو تجدد القدرة على التعبير، واختلاف أسلوب التناول أو شكله. وقد تكون الكاتبة قد وجدت في اختلاف الألوان وتنوعها، بين اقتراب وابتعاد، وبين تعانق وافتراق، ما يبرر ما ذهبت إليه لتصنع هذا النص السردي اللافت.

إعلان

إعلان

إعلان