أبي يعرف أكثر.. يحدث في صعيد مصر (مقال)

كتب: حازم دياب:

كانت عربة الأمن المركزي بألوانها الزرقاء الكالحة تسير في البلدة في منتصف التسعينات، لم تكن تحمل جنود يهمون بفض إضراب، أو متهمون يتنسمون عبير هواء من فرجات الشبابيك، كانت العربة تمضي ببطء، وعليها هياكل خشبية تمثل صليباً، ومثبت مع أطراف الصليب أطراف رجل مضرج في دمائه، قال لي أبي إن عليّ أن أنام وحدي في الغرفة بعد هذه الليلة بلا ونيس، فقد قضى على السفاح عيد، الذي قتل ما يربو على أربعين رجلاً في بني مزار، ولم يقترب من امرأة. يومها لم أنم ليلتي بعمق، وظل عيد السفاح يقض مضجعي ميتاً أكثر مما فعل حياً.

***

وقفت على باب غرفة مازالت بعض حروفها تشير إلى كونها للعناية المركزة، طلبت من الطبيب الدخول فنظر لي شذرا، قائلاً إن الدخول ممنوع، لينعم المرضى بهواء نظيف وهدوء كامل، انطلقت قطة تموء من فتحة الباب للداخل، فبُتر الحديث، ودخلت لتلك الغرفة التي حاول منعي دخولها. كان أبي مسجى على سرير صاج، مُعرّى لوضعه على جهاز تنظيم ضربات القلب، لحظة لا تُنسى تلك التي يتحول فيها الأب من شخص يلفك ويقيض لك شؤون الحياة بمصاعبها، إلى متدثر بأغطية بالية، ومتعلق جسده بأسلاك نحاسية باردة، وشاخص بصرك إلى معدل ضربات القلب. يقول الطبيب إن الضربات يجب أن تقل عن المائة ضربة، أتابع المؤشر الذي يتقافز ليعبر المائتين بكثير، وأشعر بأن خفقان قلبي يتعاطف مع أبي.

***

كان مسيحياً يمشي في شوارع بني مزار بصعيد مصر، حيث تشاجر مع مسلم، فتحول المكان لحرب شوارع، وبعد جلسة تحكيم عرفي، غادر المسيحي الشارع، وُحكم عليه بخمسين ألف جنيه غرامة، وفي أعقاب ثورة يناير أشارت الإحصائيات إلى أنه تم توثيق حالة اختطاف 150 قبطياً في الصعيد، قُتل منهم 9، وألحق فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، الخراب بأكثر من عشرين كنيسة في المنيا وأسيوط وسوهاج، تحولت فيها التمائم والنقوش إلى ركام. وتشير الأرقام إلى أن نسبة الأقباط في مصر نحو 8%، بينما في الصعيد يصلون لما يناهز 20% من إجمالي السكان.

***

وقفت على الطريق أرغب في السفر للعاصمة، لمحت الحوائط المكتظة بإعلانات الطامحين في السفر للخارج لمستقبل أفضل في دول الخليج، تذكرت حين كنت أسير في شوارع الكوربة بمصر الجديدة، ورأيت إعلانات شركة توماس كوكاك تبشر المستعدين لقضاء الإجازات في أواسط وشرق أوربا بعروض أفضل.

للصعيد مواصلات متهالكة، زارني أحد الأصدقاء من الخارج مرة، وتعجب كيف تصلح للآدميين. في الصعيد فقط يمكن للقطار أن يحرق أكثر من ثلاثمائة وهم مسافرون لقضاء إجازة العيد، وفي الصعيد فقط يمكن ألا يكون هناك مزلقان يحجب القطار عن صدم أتوبيس مدرسة ليمزج دماء نحو خمسين طفلاً بالحديد والإسفلت، وفي الصعيد فقط لا تحتوي الطرق على خدمات الإنارة والإسعاف، ويموت الناس في حوادث سير ويصيروا مجرد رقم في دفتر المشرحة، وخبر صغير في صفحة حوادث يعرج عليها بالصدفة قاريء باحث عن فضيحة في الأغلب.

***

''مفيش، أبوك بس اتخدّر غلط''. نظرت لوجه أبي الذي غار، ولأمي التي يتهدج صوتها كان الأمر في بداية الألفية، قال أبي في الصباح سأذهب لمحو حصوة من الغدة، ''العملية سهلة وحبقى في البيت بليل''. عاد في الليل فعلاً لكن بلا حراك، حيث قام الطبيب بتخديره بشكل خاطيء، ما تسبب في انقطاع تنفسه، قبل أن يقحموا أنبوبة أكسجين في فمه لتتكسر سنتيه الأماميتين. أبي الآن يقول طبيب القلب إن ضغطه 90/ 50، والشك يغمره، لاسيما مع تقافز مؤشر القلب الذي أراقبه. أقول له إن المستشفى عام وحالتها تدعو للرثاء، ويمكنني نقله للقاهرة في الحال. لا يرد. يطلب السكينة، ثم يحدثني عن سهولة الحالة وضرورة التزام الهدوء، أطالبه بأن يطرد القطة التي تجول في غرفة العناية المركزة، وكأنها صديقة المرضى.

***

في الصعيد جرائم لا تحدث إلا فيه، يحدها مثلث الجهل والفقر والمرض، ذات مرة منذ نحو ثلاثة أعوام، عاكس مار زوجة ميكانيكي، فنشبت مشاجرة مات على أثرها أربعة وحُرق منزلين، ومنذ عدة أعوام وقعت مذبحة تُعرف إعلامياً باسم مذبحة شمس الدين، راح ضحيتها عشرة أفراد من ثلاثة بيوت، قُتلوا وقطّعت أعضائهم التناسلية، واتهم فيها مختل عقلياً. في الصعيد، شك الرجل الذي يعمل كأمين شرطة في سلوك زوجته ونسب أطفاله إليه، فجلب ثعبان كوبرا وقتلهم في تلذذ. في الصعيد يُنشر خبر بجريدة الأهرام عن دراجة بخارية تصدم كلباً فتؤول الأمور إلى عراك بالأسلحة البيضاء ينجم عن إصابة عشرة.

***

استمرت حالة والدي في السوء، كانت مهمتي تتلخص في تهدئة روع والدتي التي تشير لبرودة جسد زوجها في رعب، بصرها معلق بجفونه وزفيره. بعد عمل الأشعة والفحوصات، تبين أن طبيب القلب، وهو أستاذ مخضرم، فشل في التشخيص، وأن القضية ليست قلب، وإنما رئة، وتسبب رفضه لتناول والدي أيّة علاجات في ألا تظهر الرئة اليمنى أو الغشاء البلوري في الأشعة من فرط الانسداد الذي غشيهما. بمواجهة طبيب القلب بما وصلنا إليه مع دكتور الصدر كانت إجابته بأنه سأل والدي عما إن كان يدخن أم لا، وحين كانت إجابته بالنفي، قطع ببعد الأزمة عن الرئة.

***

''متحف ملوي اتسرق منه أكتر من ألف حتة آثار''

''هو في متحف في ملوي أصلاً''

للصعيد مكانته الكبرى في التاريخ، وقرية ''صندفة'' التابعة لمركز بني مزار بمحافظة المنيا، ذُكرت في رحلات ابن بطوطة، كمكان للاستراحة، قبل أن يكتسب طبيعة فرعونية وقبطية وإسلامية، فالقرية تتبع مدينة إخناتون، ومنها مرت السيدة العذراء، وفي طينها دفُن عدد من الصحابة. لكن الآثار المكتشفة في الصعيد نسبة ضيئلة للغاية من المدفون في باطن الأرض. الآف الأسر أصابها ثراء فاحش فجأة والكل يعرف السبب: قطع آثار بيعت لمن يعرف قيمتها. متحف ملوي الذي أثبتت اليونسكو سرقة 1044 قطعة من إجمالي مقتنيات المتحف البالغة 1089، يضع الدولة أمام مجتمع صعيدي لا يدرك قيمة ما في جوف الأرض، أو بالأحرى يدرك قيمتها، مادياً فقط، للتخلص من فقر مدقع.

***

يعمل لدى والدي شاب أنهى للتو تعليمه الثانوي، سألته عن اسمه كيف يكتبه، فضحك مردداً أنه لا يعرف كيف يتهجاه، ظننته يمزح قبل التأكد من والدي عن جهله، وتشير إحصائية حقوقية عن أن 80% من فتيات الصعيد لم يلتحقن بالتعليم، نفس الإحصائيات التي تؤكد أن التصويت بالموافقة على الدستور الذي رُدد أنه يقول نعم للدين، ويحمل الناخبين للجنان تجاوز ال70%. جمعية إسلامية كانت تأخذ منا إفطار في رمضان وتوزعّه للفقراء، واكتشفنا أن أسماء هؤلاء المساكين مدرجة في كشوف يحتاجونها ساعة الانتخابات، معرفتنا لم تغير من الأمر شيئاً، فأمي لن تستطيع إيصال الطعام الساخن لمحتاج حين يؤذن المغرب.

***

أبي واحد من ملايين في الصعيد، يقعون فريسة لمثلث الفقر والجهل والمرض المتفشي فيه، والذي يعد بمثابة قنابل موقوتة أكثر من تلك القنابل المفخخة المتصدرة للصحف، ويصدر مشاكل كالتار والفتن الطائفية والعنف في ارتكاب الجرائم، وعدم إيجاد ملاذ للمرضى، لكن أبي مريضاً مثالياً، وصعيديا مثالياً أيضاً، أبي لديه استعداد أن يحكي قصة مرضه بدءً من لحظة إغماءه وحتى إفاقته لكل ضيف، أبي يستمع لتعليمات الطبيب ويتعايش مع الألم والأرق ونظرات الأبناء العطوفة وكلمات المحيطين الجوفاء. أبي لم يفارق الصعيد رغم فرص السفر التي واتته، لكنه دفع بي وبأخي خارج مدينتا، يقول ''نفسي متكملوش حياتكم في الصعيد''.

أبي يعرف أكثر.

دلوقتي تقدر تعبر عن رأيك في مواد الدستور الجديد من خلال استفتاء مصراوي..شارك برأيك الآن