إعلان

في ذكرى رحيل عميد الأدب العربي.. تأملات في كتاب طه حسين (عَلَى هامِش السِّيْرة)

06:17 م الأحد 28 أكتوبر 2018

قـراءة- علـي شـبل

٨٤ عامًا قضاها معلِّمًا ومؤلِّفًا وصانعًا من صنَّاع النور، أثرى خلالها المكتبةَ العربية بالعديد من المؤلَّفات والترجمات، مكرّساً أعمالَه للتحرُّر والانفتاح الثقافي، مع الاعتزاز بالموروثات الحضارية القيِّمة؛ عربيةً ومصريةً.. هو البصير فاقد البصر عميد الأدب العربي، طه حسين، الذي عُيِّن مستشارًا لوزير المعارف، ثم مديرًا لجامعة الإسكندرية ووزيرًا للمعارف، وقاد الدعوة لمجانية التعليم وإلزاميته، وكان له الفضل في تأسيس عددٍ من الجامعات المصرية.

وفي التقرير التالي يقدم مصراوي قراءة مبسّطة لكتابه (على هامش السيرة) الذي يُعد العمل الأبرز في تسجيل تاريخ الإسلام، ومصدراً مهماً لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد سجلت معظم الأحداث المتعلقة بالرسول والجزيرة العربية منذ عصر الجاهلية حتى وفاة الرسول. ولا تزال السيرة النبوية مصدرًا لإلهام الكثيرين الذين يتناولونها بالشرح أو الاختصار أو التحليل أو تبسيط معانيها. وكان عميد الأدب العربي أحد الذين استهوتهم؛ فسجل ما ارتآه منها؛ راغبًا أن تكون نبراسًا لتوجيه الكثير من أبناء اللغة العربية إلى ضرورة الرجوع إليها والاستفادة منها. وقد اعترف طه حسين بأنه لم يأتِ بجديد وأن ما سجله هو فقط مجرد خواطر، طرأت له أثناء القراءة، فصاغها بأسلوبه المعروف بالسهل الممتنع.

في الجزء الأول من الكتاب يروي طه حسين قصة حفر زمزم والرؤيا التي كانت تتكرر على عبد المطلب فمرة يُطلب منه حفر طيبة ومرة بَرَّة ومرة المضنونة واخيرا ياتيه ليقول له احفر زمزم. ثم يذكر بعدها الكاتب ما لاقاه عبد المطلب من نكران قريش عليه في أمر الطائف الذي يأتيه في المنام ليحفر بئرا في فناء المسجد وغيرها من الاحداث.

وفي الجزء الثاني يروي قصص الرهبان النصارى واليهود الذين هربوا من استبداد الإمبراطور الروماني، واتخذوا أديرة وصوامع ليتعبدوا بها وكانوا عارفين بقرب زمان مجيء خاتم الأنبياء ويتتبعون أخباره؛ كما يذكر أحداث زواج الرسول- صلّى الله عليه وسلم- من السيدة خديجة بنت خويلد- رضي الله عنها- كما روى عن حادثة إعادة بناء الكعبة والحجر الأسود الذي تنازعت عليه العشائر الأربعة، وفض النزاع النبي محمد (ص).

ويبدأ في الجزء الثالث بالحديث عن عمرو بن هشام (كما هو معروف بأبو الحكم أو ابو جهل) ويعرض الكاتب سيرته وكيده وتدبيره السيئ للنبي محمد (ص)، ثم يتحدث عن تبشير ورقة بن نوفل للسيدة خديجة بنت خويلد بأن تأويل ما حدث مع زوجها أنه هو خاتم الأنبياء والرسل. كما يروي عميد الأدب الأدب العربي قصة إسلام الصحابي الشهيد مصعب بن عمير وما حدث معه في حمل راية المسلمين في موقعة أحد وقصة بعض من الصحابة الكرام مثل خادم الرسول زيد بن حارثة وغيره- رضي الله عنهم.

وقبل الخوض في مقدمة الكتاب ينبغي الإشارة إلى الهدف من تأليف هذا الكتاب، وهو أن طه حسين وغيره من الكتاب والمفكرين العقلانيين المصريين اكتشفوا خلال النصف الأول من ثلاثينات القرن الفائت خطورة استيلاء المتشددين الدينيين على إيمان المصريين الحقيقي والأكيد، واستشراء ظاهرة الأحزاب الدينية واستجابة قطاعات عريضة من الناس لأفكارها، فوجدوا أن من الخطورة مواصلة الغوص في حداثة علمانية كانت تسم قبل ذلك أفكارهم وكتاباتهم - وكانت مؤمنة على أي حال - وترك ساحة استخدام النصوص التراثية ونصوص الفكر الديني للمتشددين يفسرونها على هواهم وضمن إطار أفكارهم الظلامية، لذلك التفتوا إلى ذلك التراث وراحوا ينهلون منه، ليس للتشديد على صواب عقلانيتهم هم، بل خصوصاً من أجل كشف الجوانب المتقدمة والعقلانية والمشرقة من الدين الإسلامي.

في مقدمة كتابه (على هامش السيرة)، يقول طه حسين: "هذه صحف لم تُكتب للعلماء ولا للمؤرخين؛ لأني لم أرد بها إلى العلم، ولم أقصد بها إلى التاريخ. وإنما هي صورة عَرضت لي أثناء قراءتي للسيرة فأثبتُّها مسرعًا، ثم لم أرَ بنشرها بأسًا. ولعلِّي رأيت في نشرها شيئًا من الخير؛ فهي تردُّ على الناس أطرافًا من الأدب القديم قد أفلتت منهم وامتنعت عليهم، فليس يقرؤها منهم إلا أولئك الذين أتيحت لهم ثقافة واسعة عميقة في الأدب العربي القديم. وإنك لتلتمس الذين يقرءون ما كتب القدماء في السيرة وحديث العرب قبل الإسلام فلا تكاد تظفر بهم. إنما يقرأ الناس اليوم ما يكتب لهم المعاصرون في الأدب الحديث بِلُغتهم أو بلغة أجنبية من هذه اللغات المنتشرة في الشرق، يجدون في قراءة هذا الأدب من اليسر والسهولة، ومن اللذة والمتاع ما يغريهم به ويرغبهم فيه، فأما الأدب القديم فقراءته عسيرة، وفهمه أعسر، وتذوقه أشد عسرًا".

ويشير د. حسين إلى تفرده بالكتابة في السيرة سابقاً غيره ومعجزاً تابعيه: "وفي أدبنا العربي على قوته الخاصة، وما يكفل للناس من لذة ومتاع، قدرة على الوحي، وقدرة على الإلهام"... "ولا خير في حياة القدماء إذا لم تلهم المحدثين ولم تُوحِ إليهم رائع البيان شعرًا ونثرًا. وليس القدماء خالدين حقٍّا إذا لم يكن التماسهم إلا عند أنفسهم، ولا تعرف أنباؤهم إلا فيما تركوا من الدواوين والأشعار. إنما يحيا القدماء حقٍّا، ويخلدون إذا امتلأت بصورهم وأعمالهم قلوب الأجيال مهما يبعد بها الزمن، وكانوا حديثًا للناس إذا لقي بعضهم بعضًا، وكنوزًا يستثمرها الكتاب والشعراء لإحياء ما يعالجون من ألوان الشعر وفنون الكلام".

ويكشف عميد الأدب العربي هدفه من الكتاب: "إلى هذا النحو من إحياء الأدب القديم، ومن إحياء ذكر العرب الأولين، قصدت حين أمليت فصول هذا الكتاب. ولست أريد أن أخدع القراء عن نفسي ولا عن هذا الكتاب؛ فإني لم أفكر فيه تفكيرًا، ولا قدرته تقديرًا، ولا تعمدت تأليفه وتصنيفه كما يتعمد المؤلفون؛ إنما دفعت إلى ذلك دفعًا، وأكرهت عليه إكراهًا، ورأيتني أقرأ السيرة فتمتلئ بها نفسي، ويفيض بها قلبي، وينطلق بها لساني، وإذا أنا أملي هذه الفصول وفصولًا أخرى أرجو أن تنشر بعد حين...".

ويشرح العميد لقارئه كيف استند إلى مصادره الدينية والتاريخية كاتباً: "ولن يتعب الذين يريدون أن يردوا فصول هذا الكتاب القديم في جوهره وأصله، الجديد في صورته وشكله، إلى مصادره القديمة التي أخذ منها. فهذه المصادر قليلة جدٍّا؛ وليس في . تاريخ الطبري و طبقات ابن سعد و سيرة ابن هشام لا تكاد تتجاوز هذا الكتاب فصل أو نبأ أو حديث إلا وهو يدور حول خبر من الأخبار ورد في كتاب من هذه الكتب. فإذا اتصل الخبر بشخص النبي فإني أرده إلى مصدره ليستطيع من شاء أن يرجع إليه، لا أحتمل في ذلك تبعةً خاصة؛ لأني لا أذهب فيه مذهبًا خاصٍّا، إلا أن يكون تبسطًا في الشرح والتفسير واستنباط العبرة والوصول بها إلى قلوب الناس.. فلييسر لله سبيل هذا الكتاب إلى النفوس، وليحسن لله موقعه في القلوب".

كان طه حسين علي سلامة وُلِد في نوفمبر ١٨٨٩م بقرية الكيلو بمحافظة المنيا. فَقَدَ بصرَه في الرابعة من عمره إثرَ إصابته بالرمد، لكنَّ ذلك لم يَثْنِ والِدَه عن إلحاقه بكُتَّاب القرية؛ حيث فاجَأَ الصغيرُ شيخَهمحمد جاد الرب بذاكرةٍ حافظة وذكاءٍ متوقِّد، مكَّنَاه من تعلُّم اللغة والحساب والقرآن الكريم في فترة وجيزة.

وتابَعَ مسيرته الدراسية بخطوات واسعة؛ حيث التحَقَ بالتعليم الأزهري، ثم كان أول المنتسِبين إلى الجامعة المصرية عامَ ١٩٠٨م، وحصل على درجة الدكتوراه عامَ ١٩١٤م، ثم أوفدَتْه الجامعة المصرية إلى فرنسا، واجتاز دبلوم الدراسات العليا في القانون الرُّوماني، وكان لزواجه بالسيدة الفرنسية سوزان بريسو عظيم الأثر في مسيرته العلمية والأدبية؛ حيث قامَتْ له بدور القارئ، كما كانت الرفيقة المخلِصة التي دعمَتْه وشجَّعَتْه على العطاء والمُثابَرة، وقد رُزِقَا اثنين من الأبناء: أمينة ومؤنس.

وبعد عودته من فرنسا، خاض غِمار الحياة العملية والعامة بقوة واقتدار؛ حيث عمل أستاذًا للتاريخ اليوناني والروماني بالجامعة المصرية، ثم أستاذًا لتاريخ الأدب العربي بكلية الآداب، ثم عميدًا للكلية. وفي ١٩٤٢م عُيِّن مستشارًا لوزير المعارف، ثم مديرًا لجامعة الإسكندرية. وفي ١٩٥٠م أصبح وزيرًا للمعارف، وقاد الدعوة لمجانية التعليم وإلزاميته، وكان له الفضل في تأسيس عددٍ من الجامعات المصرية. وفي ١٩٥٩م عاد إلى الجامعة بصفة أستاذ غير متفرِّغ، وتسلَّمَ رئاسة تحرير جريدة الجمهورية .

ورحل طه حسين عن دُنيانا في مثل هذا اليوم ٢٨ أكتوبر ١٩٧٣م عن عمرٍ ناهَزَ ٨٤ عامًا، قضاها معلِّمًا ومؤلِّفًا وصانعًا من صنَّاع النور.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان