"عمر المختار".. إعدام أسد الصحراء وشيخ الشهداء والمجاهدين
كتبت- سارة عبد الخالق:
عندما يذكر اسمه نتذكر دائما هذا المشهد من فيلم "أسد الصحراء" الذي جسده الممثل المكسيكي- الأمريكي "أنطوني كوين"، صورة الرجل الذي بلغ من العمر أرذله وتجاوز الـ 73 عاما، رجل ضعيف البنية تظهر على ملامحه آثار الزمن الذي مر عليه، رجل ذو لحية بيضاء، يرتدي ملابس بيضاء اللون، يأتي مكبل اليدين ينتظر لحظة إعدامه!
إنه أحد أشهر المقاومين العرب والمسلمين "عمر المختار" الملقب بشيخ الشهداء وشيخ المجاهدين وأسد الصحراء، حيث يمر اليوم 87 عاما على ذكرى إعدام المناضل الليبي "عمر المختار" الذي حظيت لحظة إعدامه هذه وصورته وهو معلق على حبل المشنقة تعاطف أشخاص كثيرين حول العالم، وطبعت صورته في الأذهان على مر السنين وظل رمزاً للمقاومة الليبية ضد الاستعمار الإيطالي للبلاد وبطلاً شهيداً ترك ذكراه في نفوس الشعب الليبي بالأخص بل والشعوب جميعها.
لن ينسى التاريخ قولته لحظة صدور حكم إعدامه: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، وكذلك لحظة إعدامه: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}.
وقد رثاه أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته عن شيخ الشهداء عمر المختار (الشيخ الأسد):
إِفريقيا مَهدُ الأُسودِ وَلَحدُها ضَجَّت عَلَيكَ أَراجِلاً وَنِساءَ
وَالمُسلِمونَ عَلى اِختِلافِ دِيارِهِم لا يَملُكونَ مَعَ المُصابِ عَزاءَ
وَالجاهِلِيَّةُ مِن وَراءِ قُبورِهِم يَبكونَ زيدَ الخَيلِ وَالفَلحاءَ
في ذِمَّةِ اللَهِ الكَريمِ وَحِفظِهِ جَسَدٌ بِبُرقَةَ وُسِّدَ الصَحراءَ
"عمر المختار" هو السيّد عُمر بن مختار بن عُمر المنفي الهلالي، ولد في 20 أغسطس عام 1858 م، ولد في "البطنان" ببرقة من أبوين صالحين، ووالده السيد "مختار بن عمر" من قبيلة "المنفة"، وقد توفاه الله أثناء سفره إلى الحج، فأوصى أحد رفاقه بولديه عمر ومحمد، وكانا يقيمان في "بزنزور" يدرسان بزاويتهما- وفقاً لما جاء في كتاب "عمر المختار: شهيد الإسلام وأسد الصحراء" لمحمد محمود إسماعيل.
حصد عمر المختار انتباه شيوخه في صباه، فهو اليتيم اليافع، الذي شجّع القرآن الناس وحثهم على العطف على أمثاله كي تُخفف عنهم مرارة العيش، كما أظهر ذكاءً واضحًا، مما جعل شيوخه يهتمون به في معهد الجغبوب الذي كان منارة للعلم، وملتقى للعلماء والفقهاء والأدباء والمربين، الذين كانوا يشرفون على تربية وتعليم وإعداد المتفوقين من أبناء المسلمين ليعدّوهم لحمل رسالة الإسلام، ثم يرسلوهم بعد سنين عديدة من العلم والتلقي والتربية إلى مواطن القبائل في ليبيا وأفريقيا لتعليم الناس وتربيتهم على مبادئ الإسلام وتعاليمه- وفق موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين: الشيخ عمر المختار.. نشأته وجهاده.
ومكث عمر المختار في معهد الجغبوب ثمانية أعوام ينهل من العلوم الشرعية المتنوعة كالفقه والحديث والتفسير، ومن أشهر شيوخه الذين تتلمذ على أيديهم: السيّد الزروالي المغربي، والسيّد الجوّاني، والعلّامة فالح بن محمد بن عبد الله الظاهري المدني، وغيرهم كثير، وشهدوا له بالنباهة ورجاحة العقل، ومتانة الخلق، وحب الدعوة، وكان يقوم بما عليه من واجبات عمليَّة أسوة بزملائه الذين يؤدون أعمالًا مماثلة في ساعات معينة إلى جانب طلب العلم، وكان مخلصًا في عمله متفانيًا في أداء ما عليه، واشتهر بالجدية والحزم والاستقامة والصبر، ولفتت شمائله أنظار أساتذته وزملائه، ومع مرور الزمن وبعد أن بلغ عمر المختار أشدَّه، اكتسب من العلوم الدينية الشيء الكثير ومن العلوم الدنيويَّة ما تيسَّر له، فأصبح على إلمام واسع بشؤون البيئة التي تحيط به وعلى معرفة واسعة بالأحداث القبلية وتاريخ وقائعها.
بدأ كفاحه وحربه ضد الإيطاليين وهو في سن الـ 53 عاما، وظل يبذل قصارى جهده للقضاء على الاستعمار الإيطالي لأكثر من 20 عاما، حتى قبض عليه من قبل الجنود الإيطاليين.
وجاء في كتاب "شهيد الإسلام وأسد الصحراء" أنه "جرت محكمة صورية في الساعة الخامسة مساء يوم 15 سبتمبر 1931 م، جرت هذه المحاكمة في مكان برلمان برقة القديم، حيث كانت المحاكمة صورية شكلا وموضوعا، والدليل على ذلك أن الطليان كانوا قد أعدوا المشنقة قبل بدء المحاكمة بيوم واحد، وانتهوا من تنفيذ حكم الإعدام قبل صدوره".
مشهد من المحاكمة
يقول الكاتب: "... نودي عليه وبدىء في استجوابه، وبعد أن أجاب عن اسمه ومولده وعمره سئل عما يأتي:
وهل أنت رئيس الثوار ضد إيطاليا؟ وهل حاربت الدولة؟ وهل رفعت السلاح في وجه قوات الدولة؟ واشتركت في القتال اشتراكا فعليا؟ وهل أمرت بقتل الجنود الذين كانوا يحرسون العمال أثناء إنشاء الطرق. وهل أمرت بالغزو واشتركت فيه وهل أمرت بتحصيل الأعشار من الأهالي؟"
وأضاف الكاتب أن عمر المختار أجاب على كل هذه الأسئلة كلها بالإيجاب، وكانت كلمة "نعم" واضحة وبصوت عال، وسئل أيضا: هل قتلت الطيارين "بياتي وأوبر"؟، فأجاب: إني بعد القبض عليهما أبقيتهما في المعسكر، وأخبرت السلطات الإيطالية بشأنهما، وفي ذات اليوم حصلت معركة فذهبت إليهما، فقتلا بعدي، ولا أعلم من القاتل.
وبعد استجواب عمر المختار ومناقشته وقف المدعي العمومي "بوندو" فطلب الحكم عليه بالإعدام وعندما جاء دور المحامي المعهود إليه بالدفاع عن عمر المختار، وكان ضابطا إيطالياً يدعى الكابتن "لونتانو" وقف وقال: "كجندي لا أتردد أبدا إذا وقعت عيناي على عمر المختار في ميدان القتال في إطلاق الرصاص عليه وقتله، وأفعل ذلك أيضا كإيطالي أبغضه وأكرهه، ولكني كلفت بالدفاع عنه، فإنني أطلب حكماً هو في نظري أشد هولاً من الإعدام نفسه، وأقصد بذلك الحكم عليه بالسجن مدى الحياة نظرا لكبر سنه وشيخوخته".
وأوضح الكاتب محمد محمود إسماعيل أن "المحكمة منعت المحامي من إتمام مرافعته، ولم تعين له محامياً آخر، بل سأله رئيس المحكمة، إذا كان لديه أقوال أخرى؟، فأجاب بالنفي، فرفعت الجلسة وعادت مرة أخرى بعدها بربع ساعة فقط، وتلا رئيس المحكمة الحكم الذي أثبتوا فيه إدانة عمر المختار، وحكمت عليه بالإعدام".
فقابل البطل عمر المختار ذلك بقوله "إنا لله وإنا إليه راجعون"، وعندما ترجم ما قاله عمر المختار لرئيس المحكمة، تأثر الإيطاليون أنفسهم الموجودون في قاعة المحكمة، وعلقوا على هذا الحكم مظهرين استياءهم وحزنهم ومعجبين بشجاعة عمر المختار في نفس الوقت."
يوم تنفيذ الحكم
وأحضر عمر المختار مكبل الأيدي، وعلى وجهه ابتسامة الرضا بالقضاء والقدر، وبدأت الطائرات تحلق في الفضاء فوق المعتقلين بأزيز مجلجل حتى لا يتمكن الشيخ عمر المختار من مخاطبتهم، وفقا لما جاء في كتاب (عظماء بلا مدارس) لعبدالله صالح الجمعة.
ووصف الكاتب المشهد قائلاً: "إنه في تمام الساعة التاسعة صباحا سلم الشيخ إلى الجلاد، وكان وجهه يتهلل استبشاراً بالشهادة، وكله ثبوت وهدوء، فوضع حبل المشنقة في عنقه، وقيل عن بعض الناس الذين كانوا على مقربة منه، إنه كان يؤذن في صوت خافت أذان الصلاة، والبعض قال إنه تمتم بالآيات الكريمة: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}، وبعد دقائق صعدت روح شيخ المجاهدين الطاهرة إلى ربها.
فيديو قد يعجبك: