إعلان

 شهر رمضان والعبادة الصَّامتة

شهر رمضان

شهر رمضان والعبادة الصَّامتة

08:28 م الخميس 07 مايو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم: د. سامح عبدالله عبدالقوي

عضو مركز الأزهر العالمى للرصد والافتاء الالكترونى

شهر رمضان المبارك ؛ هو شهر عظيم، نجدد فيه اليقظات الرُّوحية والفكرية والتَّأملية فيما نحياه في دنيانا المعاصرة -خاصة في هذه الأوقات العصيبة وانتشار وباء الكورونا في العالم بأسره نسأل الله أن يرفعه عن العالمين بمنه وكرمه –استجابة للقرآن الكريم والهدي العملي من رسولنا صلى الله عليه وسلم في العبادة الصَّامتة ، فنحن في أيامنا نفقه العبادة الظَّاهرة أمامنا كالرُّكوع والسُّجود في الصَّلاة، وقراءة القرآن الكريم بصوت مسموع، ولكن يأتي شهر رمضان بعبادته الصَّامتة أعني البُعد عن الرِّياء والتَّصنع وتفعيل عبادات كثيرة منها تدبر القرآن ومُعايشته بدلًا من الاكتفاء بالصَّوت المسموع فقط ، وعبادة الإحساس بالآخر بمعايشة همومه وآماله والآمه بلا كلام ولا ثرثرة ولا بذل ماء لا يروي من الكلام كما يحدث على وسائل التَّواصل الاجتماعي(فيسبوك، توتير) فنحن في الصِّيام أمام عبادات صامتة ورغم صمتها فإنها تفعل في القلب والرُّوح الكثير والكثير، بل إنَّ ثوابها غير معلوم على قدر صمتها وعلى قدر تفعيلها كما في الحديث : «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» [صحيح البخاري رقم 5927 ].

فهذا الشَّهر يُحيي فينا عبادة التَّفكر والتَّدبر التي ذهبت مع الرِّيح عند غالب النَّاس اليوم إلا من رحم الله ، وما المقصود من الاعتكاف إلا تحقيق هذه العبادة، فالاعتكاف ضرب من العبادة الصَّامتة يُغنى بها الفِكر عن الذِّكر، والاستغراق عن المشاهدة ، والمُتأمِّل في الهدي العملي للرَّسول صلى الله عليه وسلم يجد في سُلوكه وحاله ومقاله وسيرته قبل البعثة وبعدها في خلواته في غار حراء ما يدعو إلى دقَّة الفَهم والوعي والتَّدبُّر، ويُمارسه ويستثمره ويُنجزه في أرض الواقع، والاعتناء الكثير بهذه العبادات المنسية فالوسيلة إلى محبة الله تعالى كثرة التَّفكر في آلائه ونعمه والتَّأمل في مدى جلاله وكماله ولا يتم ذلك إلا بالعزلة القليلة والابتعاد عن شواغل الدُّنيا في فترات متقطعة متكررة من الزَّمن ، من آثارها المثمرة زيادة المحبة الإيمانية والتَّعالي عن سفاسف الدُّنيا وشهواتها ، وهذه الدَّوافع القلبية الوجدانية أثارها أعظم بكثير من مُجرد الفهم العقلي المجرد ، فرسولنا صلى الله عليه وسلم قرأ قوله تعالى : [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ *الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ][سورة آل عمران : من الآيتين رقم 190 ، 191] ليقول بعدها مُعقِّبًا في خشوع وتَهيُّب من هذه الآيات :« وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا» [ ابن حبان في «صحيحه» كما في الإحسان ح رقم 620) .

ويُلاحظ أيضًا في آية : [ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ][سورة النساء : من الآية رقم 82 ،وسورة محمد 24] من ربط الحالة الإيمانيَّة بالحالة الفكريَّة، ويَتأكَّد أيضًا في الآية الثَّانية وفي تعليق رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، فالذين يَتفكَّرون في خلق السَّماوات والأرض هم الذين يَبيتون لربهم قيامًا ويذكرونه ويخشونه ويخافونه، وليس المقصود في هذين السِّياقين والتَّعليق النَّبوي عليهما مُجرَّد التَّدبُّر الإيماني المحض، فهذا من ضرورات تصحيح العقيدة، ومن مُستلزمات قيامها أصلًا، وإنما يُراد بذلك أيضًا التَّفكُّر العقلي الخالص، والتَّأمُّل الذِّهني العميق الَّذي يُفضي إلى الكسب المعرفي الصَّحيح .

ويعلمنا الرَّسول الخاتم أن حياتنا تستقيم بمضاعفة التَّأمل والتَّفكر والتَّدبر لما نحياه في كل صغيرة وكبيرة ، ونجد حرص النَّبي صلى الله عليه وسلم على ضرورة تحقيق الوعي بهذا في إنكاره على أحد الصَّحابة في فهمه لقضية ما ، فهذا زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ يقول : ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، فَقَالَ : « وَذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ » . قَالَ : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَنُقْرِئُهُ أَبْنَاءَنَا، وَيُقْرِئُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ : « ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ أُمِّ لَبِيدٍ، إِنْ كُنْتُ لَأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ، أَوَ لَيْسَ هَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لَا يَنْتَفِعُونَ مِمَّا فِيهِمَا بِشَيْءٍ؟» يُعلِّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ ذَهاب العلم بذَهاب مصادره، فالعلم يذهب بذَهاب حَمَلته، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» [البخاري (100) ، ومسلم (2673) ]وعندما تَعجَّب زياد بن لبيد -رضي الله عنه- من ذَهاب العلم مع وجود الكتب وقراءة ما فيها أخبره النَّبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ هؤلاء يقرؤون القرآن لكن لا على الوجه المأمور به، وكذلك ينقلون القراءة بلا وعي ولا تدبر إلى أبنائهم وهكذا، فلا يستفيدون من القرآن الكريم كما ينبغي، فهلم بنا نحيا جميعًا في شهر القرآن نُعايشه ونتدبره ونستثمره.

ويحيي فينا الشَّهر الكريم عبادة الشُّعور والإحساس بالأخر وما أحوجنا إليها خاصة في أوقاتنا هذه ، وقد مثلها قوم من الأشعريين عمليا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ» [البخاري (2486)].

ففي الحديث يُثني الرَّسول صلى الله عليه وسلم على الأشعريين وهم قبيلة من بلاد اليمن قبيلة أبي موسى الأشعري رضى الله عنه ؛لتراحمهم وإيثار بعضهم بعضًا، فما دارت القضية أعني قضية الإيثار والبذل للآخرين في أذهانهم واكتفوا بدورانها في عقولهم عن تحقيق وبذل أي شيء كما يفعل الكثير منا، ولكن حققوها واقعيا بأفعالهم وصنيعهم لا بأقوالهم وأمانيهم، وانظر إلى مُكافأة رسولنا صلى الله عليه وسلم لهؤلاء بقوله :« فهم مني وأنا منهم» و« من» هذه تسمى الاتصالية، أي هم متصلون بي، وأنا متصل بهم، أي هم فعلوا فعلى في هذه المواساة، وأنا أفعل مثل ما يفعلون، وقال النَّووي: معناه المبالغة في اتحاد طريقهما، واتفاقهما في طاعة الله، وما نالوا هذا الثَّناء العظيم إلا من جراء فقه عبادة الشُّعور والإحساس بالغير، وعدم الآنية والذَّاتية والتي يعمل هذا الشَّهر العظيم بعباداته الكثيرة ؛ ليخفف من غلوائها ويستبدلها بأخرى طيبة تعود بالنَّفع علينا جميعًا ، ونُحقق بهذه العبادات الصَّامتة منهج التَّأسي العملي برسول الله صلى الله عليه وسلم الَّذي وصف بأنه كان قرآنا يمشي على الأرض ويسير في النَّاس، فاللهم خلقنا بأخلاق القرآن، وفقهنا في سنة نبينا العدنان صلى الله عليه وسلم .

إعلان

إعلان

إعلان