يوميات بدو جنوب سيناء في رمضان.. كثير من النوم وما تيسر من عمل
كتبت – مها صلاح الدين:
مع الضوء الأول في السماء، يستيقظ عمرو -الصبي البدوي الذي لم يتجاوز الثامنة عشر بعد- يرتدي ملابسه في عجالة، بنطال جينز قصير، وتي شيرت قطني خفيف، ويغطي رأسه بشال به تقاطعات صغيرة، تتبدل ألوانها بين الأبيض والأسود، أشبه بالشال الفلسطيني، يذهب إلي "جراج المكن" هكذا يطلقون على المكان الذي يضعون فيه موتوسيكلات "البيتش باجي" حمراء اللون، يحركهم واحدًا تلو الآخر، بعدد أفراد الفوج الذي سيصطحبه نحو الجبل، مع شروق الشمس. وأخيرًا، يأتي بماكينته المفضلة زيتية اللون، وتبدأ الرحلة من أمام مكتب تنظيم الرحلات الداخلية، الذي يعمل معه في دهب.
في رمضان، اختلف يوم عمرو قليلا، فنادرا ما توجد أفواج في الصباح، وإن تواجدت، عادة ما يكون فردًا واحدًا أو ثنائيات، ممن قرروا أن يأتوا تلك المدينة الهادئة في جنوب سيناء، والتي تزداد هدوءًا في رمضان.
في إحدى الليالي الأولى من الشهر الكريم، تفاجأ الصبي، الذي بدأ شاربه يرسم خطًا رفيعا فوق شفتيه، بهاتفه يرن، كان صاحب مكتب الرحلات الداخلية يخبره أنه على غير العادة سيكون لديه رحلة مع خيوط الشروق لشخص واحد، رحلة لن تأتي بثمارها المنشودة، لكنها "نواة تسند الزير" بحسب وصفه، وفي الخامسة صباحا، بدأ مهامه المعتادة.
بعبارات مقتضبة، بدأ يشرح لـ"مصراوي" كيفية قيادة "البيتش باجي" في تململ وهو يفرك عينيه، مشددًا على أنه يجب عدم الضغط على مقبض البنزين إلى نهايته في البداية، وعدم استخدام الفرامل إلا وقت الحاجة، ثم استقل ماكينته، وتقدمنا.
نحو 10 آلاف بدوي يعيشون في جنوب سيناء، يعملون كأدلة سواء في رحلات السفاري، أو تسلق الجبال، أو يعملون في كافيتريات بدائية تتوسط الجبال والوديان، تكون بمثابة استراحة للمغامرين، قاصدي رحلات الجبل.
تجاوزنا الطريق الأسفلتي في هدوء، واكتفى عمرو ببعض الإشارات اليدوية، لتوجيه مسار الرحلة، التي بدأت لدى الممشى السياحي، وامتدت بطول طريق البحر، لتبدو شواطئ دهب على اليمين كبانوراما كلما ازداد ارتفاع الطريق، الذي يحده من اليسار جبال متدرجة الألوان.
انحدر بنا الدليل نحو اليسار، غادرنا الطريق الأسفلتي نحو مدق صغير، متوجهين نحو وادي جني، يتجاوزنا أحيانا أدلة آخرون، يتقدمون ثنائيات وثلاثيات على الـ"بيتش باجي"، عائدون وقادمون في الطريق الرملي الذي تملؤه الحجارة، لكن عجلات "البيتش باجي" العريضة رسمت خطوطًا عليه على مر السنين، فبدى وكأنه ممهدًا.
نحو نصف الساعة، تسير فيها الماكينات بأقصى سرعة، في طريق وعر، ينحدر إلى الأعلى تارة، وإلى الأسفل تارة، حتى وجدنا أنفسنا بين قوس من الجبال الشاهقة، تقع أسفله كافتيريا بدائية صغيرة، تتراص فيها المقاعد والمساند البدوية حول طاولات منخفضة فارغة إلا من شاب وطفل ورجل أربعيني، يستظلون تحت مظلة من البوص، نائمين في سبات عميق.
استيقظ الثلاثة في تردد حينما سمعوا أصوات الماكينات وهي تستقر أمامهم، وكأنهم لا يصدقون أعينهم، يلقي عمرو عليهم السلام بلهجة بدوية، ويقول لهم: "سنستريح عندكم قليلا"، يعتدلون في جلستهم ويرحبون بحفاوة بالضيوف، يقول الشاب: "معلش بقة نهار رمضان مش هنقدر نقدم لكم حاجة"، ثم يتابعه الرجل في عجالة: "مسلمين مش كدة"، تبدو عليه ملامح الارتياح حينما نجيبه بالإيجاب.
يبدأون في عرض أشياء أخرى، بعض الحلي المشغولة بالخرز على الطريقة البدوية، لا بد وأن ينتفعون بشيء من الزوار، عادة ما يقدمون الشاي البدوي، والمشروبات بمختلف أنواعها للزائرين، بينما في رمضان الأمر مختلف.
يقول أحمد، شاب بدوي في أواخر العشرينات، يتولى إدارة هذه الكافيتريا من سبع سنوات، إن عمله في رمضان لا يختلف عن بقية الأيام، يستقل سيارة الدفع الرباعي في الخامسة صباحا من أمام بيته الواقع على البحر في دهب نحو الجبل، يهيئ الكافيتريا لاستقبال زبائنه القلائل الذين قد يأتون، يطمئن أن كل شيء على ما يرام، ويستظل بالسقف المعرش ببوص النخيل، وينام، حتى يلوح أحدهم في الأفق".
"رمضان راحة" هكذا يصف الشاب، أوقات العمل في الشهر الكريم، لهذا يترك الجبل في الخامسة مساء، أو يجتمع مع رفاقه ويعدون "مقعدًا بدويًا كبيرًا" على حد وصفه - وهو عبارة عن قعدة بدوية قريبة من الجبل أو البحر يجتمعون فيها حول حلقة من النار لإعداد الطعام.
وتتغير طبيعة القعدة حسب أعمار أفرادها، فالشباب يجتمعون كأصدقاء، والكبار يجتمعون كقبائل، وأرباب حرف موحدة، ليتناولوا الإفطار مع أذان المغرب، من المشاوي التي يعدونها بأيديهم.
يساعده يوميا في تهيئة الكافتيريا "خلف"، صبي نحيل في الثالثة عشر من عمره، يرتب المقاعد، ويشاركه النومة، يتوافد عليهم أحيانا من شرم الشيخ بعض السائحين، تتباين جنسياتهم بين الأوكرانية والروسية والإيطالية، والألمانية، يعدون لهم الشاي البدوي، ولكن بعضهم يرفض، احتراما لمشاعر الصائمين.
يعود الصغير، ليتناول الإفطار مع أهله، على الممشى في دهب، كعادة أهلها الذين يستغلون فراغ المدينة، ويعدون الموائد بطول الشاطئ.
يلتقط محمد الثلاثيني منهم أطراف الحديث، يغطي أقدامه التي تجلس القرفصاء بجلبابه الأبيض الفضفاض، يستقيم في جلسته، ويقول: "أنا أحكي لك عن رمضان في دهب".
يتفق مع الشبان والصبية أن هذا الشهر يُعد راحة في منتصف موسم الصيف، حتى أن بعض أصحاب الكافتيريات في الجبل يفضلون أن يغلقونها، لكنه لا يقوم بذلك، خاصة وأن كافة العاملين لديه من بدو دهب، ولا يطلبون إجازة للسفر إلى القاهرة في رمضان.
اعتاد صاحب الكافتيريا على الاستيقاظ مبكرا حتى في نهار الشهر الكريم، يشارك عماله الجلسة والنومة، حتى يأتي ما تيسر من سائحين، وقبل مغيب الشمس، ينزل كغيره إلى "دهب"، نحو المقعد البدوي.
يشارك أصدقاءه السمر، يتحدثون حول كل شيء، القبائل التي اختفت ملامحها بين المصريين المغتربين، الذين أصبحوا أكثر منهم في المدينة، العمل والسياحة التي بدأت تتحسن أوضاعهم بعد إخفاقات متتالية، أما نساؤهم فيتولين مهمة إعداد الطعام، الذي عادة لا يخرج عن المشاوي والأرز على الطريقة البدوية، يساعدهن الصغار تارة، وتارة يفضلون اللعب حول آبائهم، وينتهي المقعد في حوالي الساعة العاشرة مساء من كل يوم، فدهب "بلد أرياف بس سياحة" على حد قول محمد، ينام أهلها مبكرا، حتى يعيدون الكرة كل صباح.
فيديو قد يعجبك: