الاعتكاف عند الشيعة: لا يجوز التلذذ بشم الريحان ولا يصح إذا قل عن ثلاثة أيام
مصراوي:
الاعتكاف عبادة قديمة كانت موجودة في الأمم التي سبقت الإسلام منذ عهد أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فيقول الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخَذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}.
وللأسف أصبح الاعتكاف من العبادات والسنن التي هجرها الكثير من الناس خاصة في زماننا هذا، حيث انشغلوا بأعمالهم وحياتهم اليومية عن اقتناص فرصة لتحقيق نقلة إلى رحاب اللّه يعمّق فيها الإنسان صلته بربِّه ويتزود بما تتيح له العبادة من زاد، ليرجع إلى حياته الاعتيادية وعمله اليومي وقلبه أشدّ ثباتاً وإيمانه أقوى فاعلية.
وقد كان النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله حريصًا على الاعتكاف خاصة في شهر رمضان في العشر الأواخر منه، وقد روى الإمام أحمد والترمذي أن "النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فلم يعتكف عاما، فلما كان في العام المقبل اعتكف عشرين".
وقد حرصت المذاهب الإسلامية جميعها على تخصيص أبواب في مصنفاتهم الفقهية عن أحكام الاعتكاف وكل ما يتعلق به سواء في المذاهب السنية المعتمدة، أو المرجعيات الشيعية والإباضية، وسنستعرض سويًا في هذا الموضوع الاعتكاف عند المذاهب والتي تتشابه أحكامه فيما بينها، رغم بعض الاختلافات الظاهرة:
الاعتكاف عند أهل السنة: اقتداء بالرسول والتابعين
يرى أهل السنة والجماعة أن الاعتكاف سنة مؤكدة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل وقت وأنه مستحب في العشر الأواخر من رمضان فقد ورد في صحيحي البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده".
وهناك اختلافات طفيفة بين المذاهب الفقهية السنية في بعض أحكام وآداب الاعتكاف، ولكن المعتمد عند الكثيرين من الفقهاء أنه ليس للاعتكاف حد أدنى من الزمن، كما أن الصوم فيه ليس شرطاً لصحته، فيجوز بصوم وبغيره؛ إلا أن يشترط المعتكف الصوم، فيلزمه حينئذ.
وقد اشترط أهل السنة شروطاً لصحة الاعتكاف: منها الإسلام، والعقل، والتمييز؛ فلا يصح الاعتكاف من الكافر، ولا من المجنون، ولا من الصبي غير المميز، لأنه ليس من أهل العبادات.
ومن شروط الاعتكاف كذلك عند أهل السنة الطهارة من الجنابة والحيض والنفاس.
ومن شروط الاعتكاف أيضًا النية، فلا يصح الاعتكاف بغير نية، لأنه عبادة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) رواه البخاري ومسلم.
كما أن الاعتكاف يشترط أن يكون في مسجد تقام فيه الجماعة؛ لئلا يخرج لكل صلاة، وأما المرأة فلها أن تعتكف في كل مسجد، ولو لم تُقَمْ فيه الجماعة؛ وليس لها أن تعتكف بغير إذن زوجها، كما نص على ذلك فقهاء المذاهب السنية.
كما لا يجوز للمعتكف أن يغادر المسجد الذي يعتكف فيه إلا لأمر لا بد له منه، كقضاء حاجة من بول، أو غائط، أو للإتيان بطعام أو شراب، إن لم يكن هناك من يحضره له، ومثله الخروج للتداوي والعلاج، ونحو ذلك من الضرورات التي لا غنى للإنسان عنها.
كما أن عليه أن يحذر مما يُفْسِد عليه اعتكافه؛ كمباشرته لزوجته أو مجامعتها، ويفسد الاعتكاف كذلك بالخروج من المسجد لغير ضرورة.
وليس للمعتكف أن يزور مريضاً، أو يشهد جنازة إلا أن يشترط ذلك في اعتكافه؛ ولا حرج في زيارة أقاربه له في مكان اعتكافه، خصوصاً إن كان ثمة ما يدعو لذلك؛ وليس له أن يتجر ويبيع ويشتري حال اعتكافه.
الاعتكاف عند الشيعة: لا يجوز التلذذ بشم الريحان ولا الاعتكاف في مسجد إمامه غير عادل
يُشترط لصحة الاعتكاف عند الشيعة الصوم، فلا يصح بدونه، فلو كان المكلف ممن لا يصح منه الصوم لسفر أو غيره لم يصح منه الاعتكاف، ولا يصح الاعتكاف عند الشيعة- بحسب المرجع الشيعي علي الحسيني السيستاني- إذا قل عن ثلاثة أيام، ويصح الأزيد منها وإن كان يوماً أو بعضه، أو ليلة أو بعضها، وتدخل فيه الليلتان المتوسطتان دون الأولى والرابعة وإن جاز إدخالهما بالنية، فلو نذر الاعتكاف كان أقل ما يمتثل به ثلاثة أيام، ولو نذره أقل لم ينعقد إذا أراد به الاعتكاف المعهود وإلاّ صح.
ومن شروط صحته كذلك التي ذكرها المرجع الشيعي السيستاني أن يكون الاعتكاف في أحد المساجد الأربعة: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد الكوفة، ومسجد البصرة، ويجوز إيقاعه في المسجد الجامع في البلد أيضاً إلا إذا اختص بإمامته غير العادل فإنه لا يجوز الاعتكاف فيه حينئذٍ على الأحوط، والأحوط استحباباً ــ مع الإمكان ــ الاقتصار على المساجد الأربعة.
أما عن الأمور التي لابد للمعتكف أن يتكرها فيقول السيستاني: " لا بد للمعتكف من ترك أمور منها: الجماع، والأحوط وجوباً إلحاق اللمس والتقبيل بشهوة به، فضلاً عما يصدق عليه المباشرة بما دون الفرج كالتفخيذ ونحوه، ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة.
ومنها: شم الطيب مطلقاً ولو للشراء، وشمّ الريحان مع التلذذ ولا مانع منه إذا كان بدونه، والريحان هو كل نبت طيب الرائحة.
ومنها: البيع والشراء بل مطلق التجارة على الأحوط وجوباً، ولا بأس بالاشتغال بالأمور الدنيوية من المباحات ــ حتى الخياطة والنساجة ونحوهما ــ وإن كان الأحوط استحباباً الاجتناب، وإذا اضطر إلى البيع والشراء لأجل الأكل أو الشرب مما تمس حاجة المعتكف إليه ولم يمكن التوكيل أو ما بحكمه ولا النقل بغيرهما جاز له ذلك.
مصادر:
كتاب "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" – أبو بكر الكاساني.
كتاب "منهاج الطالبين" – الإمام النووي.
كتاب "منهاج الصالحين" - علي الحسيني السيستاني.
فيديو قد يعجبك: