7 أيام خلف الأمل.. قصة المفقود الأشهر في مرفأ بيروت
كتب- محمد مهدي وإشراق أحمد:
ما هي إلا دقائق. أغلق أمين الزاهد الهاتف مع أسرته ثم غاب؛ وقع الانفجار ومعه جميع العاملين في مرفأ بيروت، انطبق المكان على مَن فيه، علم الأهل بما جرى في وجهة عمل الزاهد، وعلى الفور ذهبوا لموقع الكارثة، الزوجة والأشقاء الأربعة، ظنوا أن المصاب لن يبلغ حد الفقد، وأنهم ملاقوه وسيعود معهم إلى المنزل، لكن ما إن حطت أرجلهم أرض المرفأ حتى بدأت رحلة لم تنته إلا بعد 7 أيام.
على رصيف رقم 14، كان الزاهد يتفقد العاملين في مرفأ بيروت، يتابع عمله كمدير بالمكان، قبل نحو 25 عامًا دخله شابًا ثم أمضى في الترقي، تجاوز الأربعين ربيعًا وصار مسؤولاً عن الموظفين، يدربهم ويستقبل أخرين جدد، وهكذا يسير العمل يوميًا، لكن مع الرابع من أغسطس انتهي المشوار إلى الأبد.
حين فقدت زوجة الزاهد وأشقائه الاتصال به، هرعوا إلى المرفأ "رأينا الدمار والأبنية المهدمة. الناس مرمية والدماء والأشلاء في الطرقات"، يتذكر محمد شقيق أمين كم هالهم ما رأوا، سألوا جميع مَن تواجد دون إجابة، طافوا المشافى لعلهم يجدوا لأمين أثر لكن لا شيء يطفيء نار القلق، فبدأوا يتفقدون بأنفسهم "فتشنا بين الحطام والدمار بإيدينا مثل أيام الحرب".
ما كان هناك بديل؛ لازم أهل أمين المكان، مع طلعة النهار في السابعة إلى انكسار الليل في الثانية عشر مساءً، يتواجدون وسط حطام المرفأ، تدور أعين وفاء إبراهيم زوجة الزاهد بين الأنقاض، تُرى تحت أي ركام يصارع أمين الموت؟
يمضي يومان، ينفلت الأمل رويدًا من النفوس، لكن مع نهار اليوم الثالث، تدبّ الحياة في روح الأهل "وصلنا صور وخبر عن أمين أنه على قيد الحياة"، تناقلت الأخبار العثور على شاب قذفه الانفجار في البحر، من خلال قوة بحرية تابعة للجيش اللبناني أثناء تمشيط المنطقة فجرًا بعد أن ظل عالقًا لنحو 30 ساعة، ونُقل على الفور إلى أحد المستشفيات.
تداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي صورة الشاب وهو غارق في دمائه داخل مركب إنقاذ صغير، انهمرت دموع أسرة الزاهد فرحة بالنبأ، أطلقوا استغاثة حتى يتعرفوا على أي مستشفى نُقل إليها، حتى تلقوا اتصالات من المسؤولين بمكانه، هرول الجميع نحو المشفى، وهناك ضاع الأمل "كان الشاب بيشبهه كتير لكن ما هو أمين"، وجد أهل الزاهد ذلك الشاب قد توفي، وبعد تحليل الـDNA تأكدت الأسرة أن أمين مازال مفقودًا.
من المسؤول عن تلك الأوجاع؟ كان السؤال يلح على شقيق الزاهد "الجهات المختصة والدولة كانت تتقاعس عن عملها وتستهر بأرواح البشر" جراء الغضب المشتعل في لبنان ألقت السلطات القبض على 16 شخصًا، زاد عددهم إلى أكثر من عشرين من بينم رئيس الجمارك اللبنانية، بينما دعت جهات عدة ومسؤولين سابقين إلى تحقيق دولي من بينهم سعد الحريري، رئيس وزراء لبنان السابق.
لم يستجب ميشال عون، الرئيس اللبناني إلى مطالب إجراء تحقيق دولي، وافق فقط على التعاون مع فريق من فرنسا وآخر أمريكي موضحًا في بيان رسمي أن الهدف من خلف تلك المطالب تضييع الحقيقة، والقضاء يجب أن يكون سريعًا لأن العدالة المتأخرة ليست بعدالة" على حد تعبيره.
عاد آل الزاهد للمرفأ مرة ثانية، كل شيء من حولهم منهار حتى طاقتهم والصبر على حافة النفاد، يتعلقون فقط بإيمان يكمن صدورهم "نحن وكل من يحب أمين ضلينا في الشارع على أمل أن نعرف عنه شيء"، لم تعرف العيون النوم، أضناها البحث إلى أن حل اليوم السابع "وصلنا خبر أن أمين بمستشفى بيروت"، حملت الأسرة أملها الأخير وتوجهوا صوب المكان.
في الطريق غرق الجميع في حالة من الصمت، قلوبهم تخفق بعنف، الشفاه لا تتوقف عن التمتمة بالدعاء، ذكرياتهم الحلوة مع الزاهد تلتف حولهم "شخص شجاع وزكي، مؤمن لا يكره أحد، ذهب 13 مرة للعمرة" تتعلق العيون بالسماء، الرجاء لا ينقطع، لا يرغبون في تكرار ما جرى مسبقًا مع الشخص الذي عُثر عليه في البحر، ثم توقفت الأفكار والسيناريوهات عندما وصلوا إلى المستشفى.
قطعت الأسرة ممرات المستشفى في خطوات، الأعين مشدوهة في الأنحاء حتى اهتدوا إلى غرفة الزاهد "لحظة من أصعب اللحظات اللي مرينا فيها" عندما دلفوا إلى الداخل وجدوه نائمًا مطمئنًا كما يصف شقيقه محمد لمصراوي، همس لهم أحد الأطباء بأنه قد توفى، أطبق الحزن عليهم، حاوط قلوبهم بأسلاك الفقد الشائكة "لا أقدر أن أوصف هذا الشعور المؤلم، كأن قلبي والدنيا وقفت عند هذه الدقيقة".
استند الأخ على الحائط بينما تركت الزوجة الدموع التي ظلت ممسكة بها لأيام، انسابت كنهر متدفق، في ساعات الموت يتمنى البعض لو كان ما يدور مجرد كابوس مزعج "لم يرد عقلي تصديق بأن أخي توفي بهذا الانفجار الظالم" امتلكتهم الصدمة بينما ينصتون لكيفية العثور على جثمانه بين ركام المرفأ "وجوده في رصيف 14" على بُعد أمتار من المناطق التي نبشوا فيها عن فقيدهم.
كان عليهم نفض الأحزان سريعًا لاستكمال باقي الإجراءات اللازمة من أجل دفنه "أنجزنا الأوراق المطلوبة وأخذت الإجراءات مسارها الطبيعي" في مدافن العائلة اكتست الوجوه بالأسى، جرى الوداع الأخير مع حبيبهم وابنهم البار "رحيله كان مفاجئًا، ترك أولاده وعائلته في عز شبابه، صبر الله قلوبنا وقلب كل من فقد حبيب في المجزرة".
قبل يوم من العثور على جثمان صاحب الاثنين والأربعين عامًا كانت لبنان ماتزال على صفيح ساخن، حيث تقدم حسان دياب، رئيس الوزراء اللبناني ، باستقالة حكومته على خلفية الكارثة بعد أيام من انسحاب 4 وزراء من الحكومة، قائلًا في كلمته "منظومة الفساد أكبر من الدولة ونحن لا نستطيع التخلص منها" لا يفيد ذلك أهالي الضحايا مثل أسرة الزاهد المكلومة، ينصب تركيزهم الآن على الدعاء لفقيدهم "كان إنسان يحب المساعدة والأعمال الإنسانية وهي تبقى للشخص في النهاية".
تابع موضوعات الملف:
"كرمال يخلص الكابوس".. بطولات "الحماية المدنية" في قلب كارثة بيروت
50 ألمانيًا بين أنقاض بيروت.. قصة فريق تطوع للبحث عن المفقودين (حوار)
"كعب داير" في بيروت.. رحلة البحث عن الضحايا المصريين بانفجار المرفأ
فقدتها أسرتها 12 ساعة.. رحلة البحث عن "ديانا" في انفجار بيروت
ليجد الأهالي أحبتهم| طالبة تُنشئ قاعدة بيانات للمفقودين بانفجار بيروت
معدات خاصة وكلاب مُدربة.. طُرق البحث عن المفقودين في كارثة بيروت (تقرير)
فيديو قد يعجبك: