إعلان

منحتهما "كورونا" خصوصية.. حكاية السيدتين الوحيدتين في أقدم مساجد مصر

10:22 م الأحد 28 يونيو 2020

عاملات مسجد عمرو بن العاص

كتبت وتصوير- إشراق أحمد

كل منهما لجأت إليه في عُسرتها، كان لها بابَ رحمة، ورُكنا شديدا تأوي إليه لأعوام، رفعتا فيه أكفهما بالدعاء بأن يرزقهما الله القوة والعون في الحياة.

صار المسجد لحنان عبد الحميد وسامية طايع "ونس"، بوجودهما فيه ورفقتهما سويًا. لم تتخيل العاملتان الوحيدتان ضمن نحو 17 آخرين في جامع عمرو بن العاص أن الأيام "دِول"، وكما صحبهما المسجد في شدتهما، سيأتي يوم يصبحان فيه "المؤنسات" له، فطيلة ثلاثة أشهر من الإغلاق كإجراء احترازي من فيروس "كورونا" المستجد وبعد عودة فتحه، تقيم حنان وسامية الصلاة وحدهما خلف جمع الرجال.

1

بالأمس، فُتحت أبواب المساجد أمام المصلين بعد غلقها منذ الحادي والعشرين من مارس الماضي، عادت صلاة الجماعة لكن دون النساء.

جاءت بعض السيدات، حاولن الدخول لكن تم منعهن طبقًا للقرارات، فيما كانت حنان "أم نادية" وسامية "أم طارق" تحظيان بلحظات حسدهما البعض عليها؛ فمع رفع الأذان وقفتا في ركن قصي، اتبعتا صلاة الجماعة خلف الإمام، كما اعتادتا "إحنا شغالين كل يوم، طول الفترة اللي فاتت والمسجد مقفول كنا بنصلي ورا الشيخ ورجالة الجامع"، تحكي سامية ذات الثلاثين ربيعًا".

طيلة الشهور الماضية، كانت السيدتان مرسالا بين المترددات على المسجد، خاصة في شهر رمضان، فكثيرًا ما استقبلت سامية أحاديث جيرانها والمشتاقات لموعد الفتح، يخبرها البعض "يا بختك عارفة تدخلي وتصلي في الجامع"، وتطالبها أخريات أن تُدخلهن "اللي تقولي ما تلبسيني بدلة زيك وندخل نصلي"، كانت "أم طارق" ترفض، ترد "دي مسؤولية"، وتُبدل الحديث إلى مزاح وتقول "بتحسدوني على إيه. على بيت ربنا اللي بدخله. ما إحنا شغالين بقالنا سنين، عايزين لما يتقفل الجامع يطردونا منه".

2

تلازم سامية العمل في المسجد وملحقاته للعام الثامن، كان في قدومها "ونس" لها؛ قبل عشر سنوات مرض زوجها بشكل ألزمه البيت، أصبحت تعول أسرتها الصغيرة، كانت تعمل في منطقة الفخارين بمصر القديمة والتي شهدت الإزالة لتطويرها تلك الفترة، فاضطرت للبحث عن مهنة أخرى؛ لجأت إلى شركة نظافة خاصة لتستقر في جامع "عمرو بن العاص"القريب من منزلها.

بالعمل في المسجد، شعرت "أم طارق" أن بابين من الرحمة فتُحا لها، الأول للإنفاق على أولادها الثلاثة، وثانيهما للصلاة جماعة في أوقاتها.

وقت أن التحقت سامية بالمسجد، لم يكن هناك سيدة سوى "أم نادية"، تباشر مهمتها كعاملة نظافة في ركن النساء فقط، حتى انضمت إليها الشابة الثلاثينية، أوقع وجودها سعادة في قلب حنان "كنت الست بين 20 راجل من ساعة ما اشتغلت لغاية ما جت سامية" تقول السيدة الستينية بينما تنظر مبتسمة لرفيقتها.

وجدت العاملتان في بعضهما الصُحبة، تنادي سامية "أم نادية" بالخالة، وتضعها الأخيرة محل الابنة، خاصة أنها وحيدة "بناتي في ليبيا أنا قاعدة لوحدي وبصرف على نفسي وعلى تعب رجلي".

3

قبل نحو 15 عامًا، عرفت حنان طريقها لأول مرة إلى جامع "عمرو بن العاص"، كانت لتوها عائدة لمصر، بعد أعوام مديدة أقامتها بصحبة زوجها في ليبيا. دارت الأيام بها، ما إن سمعت بخبر وفاة والدتها فزعت مسافرة، لم تكن تعرف سوى مكان منزلها في مصر القديمة "اتجوزت صغيرة مكنتش كملت 14 سنة وسافرت مع جوزي الليبي نزلت مصر بعد 25 سنة أول مرة"، وفي الثانية قدمت بلا عودة؛ تخلى عنها زوجها، انفصلت عنه، وبقيت بناتها الثلاث المتزوجات في بلد إقامتهن.

ضاقت الدنيا على حنان، لم يكن لديها عائل وهي بالأربعين من عمرها، فاضطرت لبيع مصوغاتها لدفع تكاليف المحاكم من أجل إتمام الطلاق، أما أشقاؤها، فكل له حياته.

تبدلت حياة "أم نادية" بعد يسر، تخبطت خطاها، إلى أن أتاها الفرج، بصلاة داخل مسجد "عمرو بن العاص" ما بين المغرب والعشاء؛ تعرفت إلى سيدة من أهل المنطقة، أشارت عليها بالعمل كعاملة نظافة، وباليوم التالي حضرت حنان إلى الجامع، ومن وقتها لم تغادره "مفيش أحسن من بيت ربنا.. هو فيه حد يشتغل فيه ويسيبه"، إلى جدرانه سكنت أم نادية مع رفيقتها، وعلى مواضع السجود فيه ألقت همومها ورضاها.

4

مع دقات الثامنة صباحا تداوم السيدتان على الحضور، رغم فارق العمر بينهما لكنهما لا تفترقان، تراهما متجاورتين أينما وجدتا إلا قليلاً، غالبًا ما يحدث ذلك لتوزيع مهام العمل حينما يزيد وأوقات الإجازات "قبل قفل المسجد كل حد فينا كان بياخد يوم عشان مينفعش نغيب إحنا الاتنين" تحكي سامية، فمع الإغلاق تشاركتا كل شيء حتى العطلات.

7 ساعات حتى الثانية ظهرًا هي فترة عمل حنان وسامية في المسجد، طيلة الأيام الماضية، كانتا تمضيانها وحدهما الوقت داخل ساحة أقدم جامع في مصر، تفرحا بما اختصتهما به المحنة من لحظة فريدة يتمناها الكثير، لكن في الوقت ذاته يمسهما الحزن.

5

انقضت الأيام ثقيلة، رغم غياب مشقة التنظيف مع عدم وجود مصلين، خاصة في رمضان، كانا يتصبران بالذكرى "كنا نيجي من الصبح لغاية الظهر ويا إما لحقنا نروح نفطر يا فطرنا هنا مع بعض ونفضل قاعدين لغاية 12 بعد التراويح"، يواصلون العمل لإزالة مخلفات المصلين، ويزيد الأمر في الأيام العشرة الأواخر "أوقات كنا بنبات هنا لكن السنة دي كنا نايمين في البيت"، تبتسم حنان بينما تذكر ليلة السابع والعشرين من رمضان "نقعد مع الناس لغاية الشروق نستناه. كان تعب لكن كنا بنبقى فرحانين".

لم يكن في غلق المسجد راحة للعاملتين كما يبدو، في وجود المصلين "أنس" لهما وسند في الحياة "ربنا كان بيرزقنا باللي يساعدنا خاصة قبل العيد كنا بنقدر نقضي طلبات بيتنا" تتفق السيدتان، فكان بإمكانهما الإضافة إلى مرتبهم غير المتجاوز 600 جنيه، فتستطيع سامية شراء ملابس جديدة لأطفالها، وتدخر حنان لأجل السفر إلى بناتها يومًا ما بعد عامين أو أربعة كما اعتادت، لكن هذا العام لم تفعلا.

6

مع العودة، دبت السعادة إلى قلب العاملتين، أخذتا تنظفان المسجد مع زملائهما "قعدنا يومين نغسل السجاد ونحضر الجامع عشان اللي جايين"، فيما لم تتوقفا عن تنظيف كافة الأرجاء من استراحات إمام المسجد والعاملين المنتدبين من خارج القاهرة، ومع الفتح اتخذتا مكانهما بالخلف، تجاورتا معًا لكن بشعور مختلف أمام مشهد صفوف المصلين "أخيرًا شوفنا ناس بعد 3 شهور" تقولها سامية بفرح بينما تعلم أنها مازالت هي وحنان وحدهما رفيقتي المسجد من النساء.

فيديو قد يعجبك: