"بكاء نصر حامد أبو زيد وقصة نزار قباني".. سيد محمود| مثقفون يروون ذكرياتهم مع معرض الكتاب
حوار - رنا الجميعي:
كانت الانطلاقة الصحفية له من هناك، لا يزال الصحفي الثقافي سيد محمود، يتذكر ذلك المعرض الذي دُعي إليه، خلال مُدته القصيرة تمكَّن من معرفة كل الأدباء الشباب في ذلك الوقت، الذين صاروا في ما بعد أسماءً كبيرة.. خالد خليفة وخليل صويلح، وغيرهما.
كان سيد محمود الأصغر سنًّا من بين المدعوين إلى مهرجان ثقافي أقامته دار المدى عام 2001، في العاصمة السورية دمشق.. رحلة بدأت من القاهرة برفقة الدكتور محمود أمين العالم، وكامل زهيري نقيب الصحفيين، آنذاك، وسمير سرحان رئيس الهيئة العامة للكتاب، وصنع الله إبراهيم، وليلى علوي، ومحمد منير، وعديد من نجوم الثقافة والفن، كانت فرصة العمر لصحفي في مقتبل حياته المهنية "عرفت المطبخ الثقافي".
انتهز سيد محمود تلك الفرصة التي لا تأتي كثيرًا.. ذاكر واجتهد، وحين عاد كان في جُعبته 28 موضوعًا صحفيًّا؛ بين الثقافي والسياسي "فضل عندي حكايات وقصص بانشر فيها طول السنة"، وكان حظّ سيد الصحفي أنه خلال الأسبوع الثقافي حدثت مظاهرات تأييد للرئيس السوري حافظ الأسد "وطلب منِّي كامل زهيري، الله يرحمه، أروح أغطيها"، بينما يتذكر جملة نقيب الصحفيين التي قالها له، ضاحكًا: "انت شاب صغير تقدر تجري".
منذ ذلك الوقت لم تنقطع علاقة الصحفي بالمعارض الثقافية؛ لكنّ ظلّ فضل مهرجان "المدى" عليه كبيرًا؛ فقد أصبح على تواصل دائم بالكتاب السوريين، وتعرَّف على كُتَّاب كبار؛ مثل عبد الرحمن منيف.
كان أسبوع مدى الثقافي مُميزًا، حفل برنامجه بعديد من الفعاليات الفنية والثقافية؛ لكن الحدث الأبرز الذي لن ينساه سيد أبدًا كان حين وقع عليه الاختيار لتقديم حفل محمد منير أمام جمهور قوامه 8 آلاف شخص، كان التليفزيون يبث الحفل الفني، الأجواء باهرة.. نزل سيد ليجلس في الصف الأمامي وجواره المفكر الدكتور نصر حامد أبو زيد (ودي كانت أول مرة أشوفه بعد خروجه من مصر) -فقد غادر أبو زيد مصر إلى المنفى عام 1995- لم يكن تقديم الصحفي الشاب لحفل منير هو اللحظة غير المنسية فحسب؛ بل إن دموع أبو زيد التي انسالت على وجنتَيه حين سمع صوت منير مُغنيًا الأغاني الوطنية كانت اللحظة الأغرب.
ظلّ منير يُغني أغاني في حب مصر؛ بينما كان سيد والناقدة شيرين أبو النجا يمنحان أبو زيد المناديل الورقية؛ حتى إن منير لاحظ ذلك، فبعد انتهاء الحفل استفسر المطرب النوبي عن الشخص الباكي، وحين عرف اندهش. وفي اليوم التالي كان سيد برفقة أبو زيد مدعوَّين على الغداء بصحبة منير (وفي القعدة دي حكى نصر لأول مرة إنه بيشتغل على كتاب عن المفكر محيي الدين بن عربي)، في الوقت الذي صدر لمنير أحدث أغنياته "مدد مدد"، فالموضوع واحد وهو الصوفية؛ لكن كان الفرق في التناول، كانت عينا سيد تلمعان وهو يحكي عن الجلسة التي لا تُنسى.
تعتبر معارض الكُتب هي فرصة كبيرة لرؤية المثقفين من عام لآخر؛ فقد زار عديد من المعارض العربية والدولية؛ مثل معرض أربيل وأبوظبي والشارقة وتونس والمغرب وفرانكفورت ولندن، ولذلك فإن عينَيه امتلكتا نظرةً نقدية تُمكنانه من رؤية المميز؛ فمن بين الأفكار التي لمس ابتكارها وتميزها كانت نوادي القراءة داخل معارض؛ مثل الشارقة وأبوظبي (بتكون كل مجموعة جايبة الكاتب بتاعها، وده بيخلق روابط بينهم)، وقد رأى أيضًا جناحًا خاصًّا بالمطابخ العالمية (بيكون فيه طباخ بيطبخ أكل والناس بتتفرج ويوزع عليهم).
لم يظل سيد الصحفي الذي يُغطي فعاليات تلك المعارض فقط؛ بل إنه أصبح جزءًا منها أيضًا، يتذكر من بينها معرض لندن للكتاب الذي أصبح مُبرمجًا فيه عام 2008، وقتها كانت جامعة الدول العربية ضيف شرف المعرض، واحتاجت إدارة المعرض إلى صحفي عربي له صلة كبيرة بالمثقفين والصحفيين العرب، وقتها تعلَّم سيد كثيرًا عن برمجة المعارض؛ فيحكي: "كانت الميزانية للبرمجة صغيرة، وعايزين 10 كُتَّاب بس يمثلون الوطن العربي، ومطلوب 3 صحفيين عرب".. فتمكّن سيد من مضاعفة العدد باختيار واضح لكل عربي يستطيع الاستفادة منه على أكثر من صعيد "قررت أن الشعراء اللي ييجوا يكون منهم صحفيون وروائيون كذلك"، فمن بين المدعوين إلى المعرض كان عزت القمحاوي وهو كاتب وصحفي أيضًا.
قبل تلك الرحلة في عالم الصحافة، كان معرض القاهرة للكتاب وحده بمثابة العين التي يرى من خلالها سيد محمود الدنيا، حين كان لا يزال طالبًا جامعيًّا في كلية الآداب، ولمّا علم الشاب بالأمسية الشعرية التي يُلقيها نزار قباني، سُرعان ما ذهب وثورة الحماس بداخله "كان أول مرة نزار ييجي القاهرة بعد قطيعة طويلة"؛ لكن الذهاب ليس بتلك السهولة، فهو يعلم جيدًا أن تلك الأمسية الشعرية ستكون مُزدحمة جدًّا، كان العام هو 1988، وقد كتب نزار حينها قصيدة أطفال الحجارة بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
منذ الحادية عشرة صباحًا كان سيد وأصدقاؤه يتناوبون على حجز الكراسي، كانت المجموعة هي أحمد يماني وياسر عبد اللطيف وعلاء عزام ومحمد متولي وحمدي الجزار، الذين أصبحوا في ما بعد كتاب مشاهير، "كنا احنا الستة حَد فينا يحجز الكراسي، والباقي يلف في المعرض"، حتى جاء موعد الأمسية التي ازدحمت عن آخرها، وفي صفوفها نجوم الفن؛ من بينهم نادية الجندي ونبيلة عبيد، كلهم قد جاؤوا ليروا نزار عن قرب.
كانت لحظات تاريخية، الكُل صامت بينما يُلقي نزار الشعر، حتى فتح أحدهم الباب، نظر بعينَيه فلم يجد مكانًا خاليًا، فقرر الجلوس على الأرض أمام الشاعر السوري، لكنه ما أن جلس أرضًا حتى سكت نزار، وقام من مكانه ليجلس ذلك الرجل بدلًا منه، ولم تعد الأمسية كما كانت، فتحوَّلت اللحظات الصامتة إلى ضجّة لوجود يوسف إدريس بينهم، وتهافت عليه الجميع "يوسف إدريس كان نجمًا".
يتذكر سيد محمود أن أمسيات معرض الكتاب كانت حدثًا كبيرًا "وكان وقتها فيه شُعَرَا نجوم"؛ فالأبنودي اعتاد إلقاء الشعر هناك، وكذلك ذهب أحمد فؤاد نجم ومحمود درويش عدة مرات، وحفلت كل دورة بالمعرض بكثير، كانت ساحة لإبداء الرأي؛ لذا تعددت المظاهرات التي تخرج منها، سواء أكانت اعتراضًا على مشاركة إسرائيل في إحدى دوراتها أم تأييدًا للانتفاضة الفلسطينية.
يداوم سيد محمود على زيارة معرض القاهرة منذ عام 1985؛ لكنّ كانت مشكلته الأثيرة معه هي عدم التنظيم والفوضى، والتي اختفت مع انتقال المعرض إلى التجمع الخامس، لكن تظلّ هناك مشكلة خاصة بالبرنامج الثقافي في شكله الحالي "يعني إيه يشارك أكتر من 3 آلاف ضيف"، ذلك العدد الضخم من الندوات والضيوف يجعل البرنامج بلا رؤية واضحة، مع استهلاك المناقشات في عديد من القضايا التي قُتلت بحثًا. ورغم تلك العيوب التي أشار إليها سيد؛ فإن معرض القاهرة يظل دُرّة بين معارض الوطن العربي (بس القاهرة فيها سحر مش مفهوم بيخلي المثقفين العرب يحبوا ييجوا هنا).
*شغل سيد محمود منصب رئيس تحرير جريدة "القاهرة".
*يكتب عمود رأي في جريدة "الشروق".
* عمل محررًا أدبيًّا ومراسلًا لعديد من الصحف العربية؛ من بينها "الحياة".
* شارك في تحكيم جائزة "ساويرس الثقافية".
* حائز علي جائزة دبي للصحافة.
*شارك في لجنة تحكيم جائزة بوكر.
فيديو قد يعجبك: