إعلان

ذكرى "يوليو" في حياة رئيسة الطائفة اليهودية: ولدت والمدافع فوق رأسيِ (حوار)

02:07 م الثلاثاء 23 يوليه 2019

ماجدة هارون

كتبت – مارينا ميلاد:
في صيف 1952، تحديدًا يوم 13 يوليو، وُلدت ماجدة في الإسكندرية.
ظلت والدتها في المستشفى لعدة أيام، ثم ذهبت إلى بيتهم، لتجد على سطحه مدافع! لم يمر وقت حتى علموا ما حدث: أعلنت حركة الضباط الأحرار عن نيتها تجاه الملك في مثل هذا اليوم قبل 67 عامًا، وهو ما أسعد والدها كثيرًا، حيث ستصبح مصر دولة مستقلة!
في بداية الأمر، لم تتخوف عائلتها من تلك الأخبار؛ لأنهم لم يتوقعوا ما سيحدث لهم بعد ذلك.

2

ذكرى يوليو الرابعة

اعتادت عائلتها أن تجتمع كل صيف بمنطقة المندرة بالإسكندرية، يؤجرون بيوتًا مجاورة لبعضها، ويخرج أطفالهم يلعبون معًا عند الشاطئ المواجه، والذي لم يكن الزحام والبناء قد حجب رؤيته بعد. تلك كانت متعتها الكبيرة في السنوات الأولى من عمرها، لكن في يوم وليلة اختفى كل ذلك؛ حيث كان صيف عام 1956 هو آخر صيف يقضونه معًا.
عائلة ماجدة؛ يهودية الديانة، مصرية الجنسية من ناحية والدها، فرنسية من ناحية والدتها. وكغيرهم ممن طالتهم المضايقات عقب العدوان الثلاثي على مصر، اضطروا إلى السفر رغمًا عنهم، ثم تفرقت بهم السبل.

تحكي ماجدة عن القبض على خالتها الفرنسية، التي كانت تعيش في الإسماعيلية بحكم عمل زوجها الإيطالي مهندسًا في قناة السويس، وعن أنها اصطحبت معها رضيعها إلى السجن؛ لأنها لا تستطيع تركه، وأنه بعد الإفراج عنها، خيروا زوجها إذا أراد أن يستمر في عمله أن يوافق على أن يكون عاملا فنيا لعدم اعترافهم بشهادته الإيطالية، فارتضوا هذا الوضع حتى غادروا مصر وسافروا إلى إسرائيل عام 1966.

الحياة قد تتغير في لحظة!

صارت ماجدة تشعر بالوحدة. لم يتبق من عائلتها سوى هي وأختها ووالديها وجدها وجدتها. باتت وسط البلد التي كانوا يسكنونها فارغة مُقبضة، فلم يعد هناك من الأقارب من يطل من الشرفات لتُسلم عليه وهي تسير مع والدها. ظلوا ينتظرون وصول جواباتهم من فرنسا، والتي تأتي إليهم مفتوحة مسبقًا، بعد أن تكون الرقابة قرأتها قبلهم.

ذهاب بلا عودة (1) جرافيك

خرج اليهود من مصر بعد عامين أو أكثر بختم "ذهاب بلا عودة". رفض والدها، المناضل اليساري "شحاتة"، الذي تم القبض عليه لهذه الميول السياسية عام 1948، أن يحمل جواز سفره هذا الختم عند سفره لعلاج ابنته الكبرى منى، والتي كانت تكبر ماجدة بعامين، فتوفيت. لم تتذكرها ماجدة، التي كان عمرها عامين وقتها، لكنها تقول إن الصور أخبرتها بعد ذلك أن منى كانت تشبهها كثيرًا.

الطفلة اليهودية كانت من طالبات مدرسة الليسيه الفرنسية، التي ضمت يهودًا آخرين. كان في فصلها اثنان أو ثلاثة منهم بعد أن قلت أعدادهم. لم تشعر بأي فرق بينهما وبين المسيحيين والمسلمين سوى وقت حصة الدين، "المسلمون يظلون مكانهم، والمسيحيون يخرجون لفصل آخر، إنما نحن لم يكن لنا حصة، كنا نذهب إلى غرفة المشرفة لننتظرهم أن ينتهوا من حصصهم".

قبلها، لم تخرج ماجدة وأختها "نادية" التي تصغرها بعامين، إلى غرفة المشرفة، وحضروا حصة الدين الإسلامي يوما، والدين المسيحي يوما آخر، "لم نكن نعرف أننا يهوديتان".

حتى سألت مدرسة الدين المسيحي شقيقتها نادية ذات يوم: "أنتِ مسيحية؟"، فأجابت: "معرفش"، فطلبت منها أن تسأل والديها، وقتها عرفت الأختان أنهما يهوديتان ومكانهما ليس وسط هؤلاء أو هؤلاء.

جد ماجدة هو الوحيد في بيتهما الذي كان يصلي صباحا ومساء، ويذهب إلى المعبد كل سبت، ويأخذها هي وأختها معه. لم تفهم معنى هذه الصلوات، لم يُحدثها أبواها عن دينهم، ولم يمثل المعبد لها شيئا سوى مكان تلعب فيه مع باقي الأطفال الذين يأتون مع أهلهم.

ترى ماجدة أن أغلب اليهود في مصر لم يكونوا متدينين، وحكت بعد ذلك أنه منذ وفاة جدها عام 1961 لم تدخل المعبد مرة أخرى إلا بعد 30 عامًا.

اصطدمت ماجدة وهي في مرحلتها الإعدادية بجانب مظلم أكثر لم تكن قد شعرت به؛ فأثناء حصة المواد الاجتماعية، وصفت مدرستها اليهود بأنهم " الكلاب الجربانة في المنطقة"، التفت زملاؤها في الفصل تجاهها ليروا ردة فعلها. وقفت ولملمت أشياءها وتركت الفصل، وأبلغت والدها أنها لن تذهب للمدرسة مرة أخرى.
لكن والدها فاجأها وأخبرها أن نفس الشيء يفعله الإسرائيليون مع الأطفال الفلسطينيين. لم تقتنع، لكنها اضطرت للذهاب إلى المدرسة، ولم تحضر حصة المواد الاجتماعية لفترة حتى حضر والدها وقدم شكوى ضد المُدرسة، وطلب منهم أن يفرقوا بين اليهودية كدين والجنسية الإسرائيلية.

3

ذكرى يوليو الخامسة عشرة

وقعت حرب يونيو 67 وطالب والدها، الذي كان يعمل محاميًا من نقيب المحامين أن يتطوع لمساعدة الجيش في أي دور مناسب له، لكن جاءت الإجابة على طلبه بالقبض عليه؛ لأنه باختصار "يهودي".
كانت ماجدة تؤدي امتحانات نهاية العام الدراسي، وجدت عند خروجها أحد موظفي مكتب والدها ينتظرها، ويبلغها أن والدها طلب منه أن يحضرها إلى البيت.

لم تنسها السنوات الطويلة هذا المشهد؛ والدها يرتدي بدلة وبجانبه شنطة سفره ويجلس بجوار الباب، ودون أن يُفهمها شيئا أوصاها بأن ترعي والدتها وشقيقتها. اعتقدت أنه سيحارب وطلبت منه أن يأخذها معه، فقاطعتها والدتها: "بابا هيتسجن".
لم يعرفوا مكانه ولا أخباره لمدة ثلاثة أشهر. حينها أبلغت السفارة الفرنسية والدتها أن عائلتها في فرنسا تطلب منها أن تسافر مع بناتها، وهو ما رفضته لرغبتها في أخذ موافقة زوجها أولا. أُفرج عنه، والغريب أنه لم يتحدث لهم عن هذه الفترة، لكن بدلته الممزقة أغنت عن حكيه.

4

ذكرى يوليو الثالثة والعشرون

مع بداية السبعينيات، بدأت ماجدة مرحلة أكثر نضجا في حياتها. أنهت "بصعوبة" دراستها الثانوية بعد أن أعادت سنتها الدراسة الأخيرة مرتين، ثم نجحت بمجموع 58%. لم يؤهلها مجموعها هذا إلا لدراسة الترجمة الفورية في جامعة الأزهر (بنين)، أو كلية فنون تطبيقية بجامعة القاهرة. والغريب أن والدها صمم أن تستقر على الاختيار الأول؛ لحبها اللغات ولقناعته أنها كمواطنة يحق لها الالتحاق بأي كلية، لكنها غيرتها عند تقديمها الأوراق.

في الكلية، صادفت ماجدة مسلمين يطلبون منها الصلاة معهم، ومسيحيين يتفقون أن تذهب معهم إلى اجتماع الأسرة المسيحية. وظل حالها هكذا 4 سنوات دون أن يعلم أحد ديانتها الحقيقية، إلى أن قُبض على والدها مرة أخرى: "كنت أغيب عن الحضور في الجامعة كل خميس؛ لأذهب مع أمي لزيارته في سجن أبي زعبل ثم؛ لأحضر جلسات المحكمة. وعندما أفرجوا عنه أجرت جريدة روز اليوسف حوارا معه، بعدها عرفت الجامعة من أنا".

لم تفوت ماجدة اعتصامًا أو تظاهرة نظمها زملاؤها لمطالبة السادات بشن الحرب. كما تطوعت في مستشفى قصر العيني للمساعدة في التمريض، لكنها لم تستمر لعدم تحملها منظر الإصابات، زاد الأمر صعوبة عليها تلك الفكرة التي لازمتها بأن أحدا من أفراد عائلتها بإسرائيل هو من جَرح هؤلاء.

كل ما تكون داخل نَفس ماجدة يرجع لوالدها التي تقول إنه علمها احترام الإنسان أيًا كان دينه أو جنسيته. لا تنسى عندما كان يطلب منها أن تجمع أبناء حارس العقار لتذاكر لهم. ولطالما جعل يوم إجازتها هي وأختها مختلفا عن غيرهم، "كنا نذهب إلى أماكن أثرية ثم نحضر السينما، ثم يشتري لنا كتبا وليس ألعابا".

5

من يحاول الوصول إلى ماجدة دائمًا عليه أن يمر بـ"نيفين". نيفين تبدو لمن لا يعرفونها "مساعدة ماجدة" في عملها، لكنها في حقيقة الأمر "نصف ثانٍ" لها، فهي الصديقة المقربة منذ أن كانتا معا في "الليسيه الفرنسية" ثم في الجامعة، حتى أنها أسمت ابنتها "ماجدة".
تقول نيفين محمد، ابنة شقيق الكاتب الراحل جلال أمين، هي حلقة الوصل بين ماجدة والشخصين اللذين تزوجتهما. إذ تزوجت ماجدة عام 1979 من شخص مسلم عن قصة حب، وأنجبت "هبة وهنا"، ورغم أن شقيق زوجها كان ضابطا في الجيش وحارب في 76 و73 لكن لم يعترض أحد على الزيجة.
درست الابنتان في مدارس فرنسية مثل والدتهما لكن في دول مختلفة بحكم عمل والدهما في مجال التسويق، فانتقلا بين هونج كونج، الكويت، تركيا، قبل أن يستقرا في فرع المدرسة نفسها بمصر، لكن هنا واجهت ابنتها الصغرى موقفًا لم يمر عليها في الدول الأخرى.

ومثلما عرف أصدقاء ماجدة في الجامعة أنها يهودية بسبب والدها. علم أصدقاء ابنتها أن والدتها يهودية بسبب والدها أيضا عندما توفي وكُتب نعيه في الصحف في مارس 2001. فجاءت إحدى زميلاتها وقالت للواقفين: "لا تعلبوا معها فهي بنت العاهرة اليهودية"، فما كان من الطفلة التي لم تكمل تسع سنوات إلا أن تذهب لأمها وتقول لها إنها تكرهها.
شعرت ماجدة حينها بضيق شديد، ربما تذكرت الموقف الذي تعرضت له من مدرستها قبل زمن طويل.
بعد 18 عاما انتهى زواج ماجدة، وبعد عام واحد تزوجت من آخر، لكن هذه المرة مسيحي.

6

الحياة تتغير في لحظة مرة أخرى!

ماجدة شحاتة هارون، صاحبة الاسم الذي يبدو مسيحيًا أو مسلمًا لكنه يهودي خالص، تعمل في مجال الملكية الفكرية إلى جانب رئاستها للطائفة اليهودية منذ 2013، التي شعرت أنها "مصيبة حلت عليها". فهي لم تكن تعرف أي شيء عن أمور الطائفة، لا تفهم العبرية أو تتحدثها، ليس لها علاقة بالتوراة سوى أن جدها كان يضعه تحت وسادتها وهي طفلة حتى لا تخاف ليلا.
وجدت السيدة نفسها بين يوم وليلة مسؤولة عن مجموعة مسنين وتاريخ كبير يحتاج المراعاة: "لا أحد سيرأس الطائفة بعدي. فقط جمعية خيرية هي من ستكمل الحفاظ على هذا التراث قدر الإمكان".
ذكرى يوليو السابعة والستون
تحل أيضًا حزينة على ماجدة بعد أن توفيت والدتها مارسيل سيمون بداية هذا الشهر.

7

لكن لا تمانع ماجدة أن تحكي حكايتها بكل ما فيها من دراما مثيرة محزنة بشكل ما. ترغب أن يعرف العالم أن اليهود كانوا جزءا من تاريخ هذا البلد. في الوقت نفسه تعترف أن الأعمال الفنية التي تناولت سيرهم مؤخرًا ساعدت في تغيير الصورة، وجعلها تصادف أشخاصًا يرحبون بها ويعرضون المساعدة؛ فأصبحت لا تشعر بالوحدة التي شعرت بها في الماضي.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان