ممثلون بلا مسرح.. حكاية أول فرقة فنية في رأس غارب
كتبت - رنا الجميعي:
كانت لحظة استثنائية لا ينساها شاذلي صالح، حين سمع اسم العرض المسرحي الذي يقوم بإخراجه ضمن الفائزين في مهرجان الصعيد للفرق الحرة، سنوات من المحاولة حتى وصل لتلك اللحظة، يدور تصفيق الناس من حوله داخل حفل توزيع الجوائز، يتلقى الابتسامات والتهاني وهو يتذكر كيف بدأ المشوار؟
خلال حفل توزيع جوائز مهرجان الصعيد المسرحي، الذي تُنظمه جمعية أصدقاء أحمد بهاء الدين، فاز العرض المسرحي "تغريبة" بجائزة لجنة التحكيم الخاصة عن الأداء الجماعي لفرقة "إبداع" من مدينة رأس غارب، في استلهام التراث المكاني، وذلك مساء السبت الماضي.
لم يتخيل صالح أن لحظة الفوز تلك ستأتي أخيرًا، يتذّكر حُبه للمسرح، ومشاركته بالعروض المسرحية داخل المدرسة، واستمراره في التمثيل خلال دراسته بجامعة سوهاج "رغم إن مكنش فيه فرقة مسرح بس أنا وصحابي عملنا ده مع بعض، وفزنا مركز أول في مسرحية من إخراجي".
هوى شاذلي التمثيل والإخراج المسرحي، لم ينتهِ حُبه مع تخرجه من الجامعة "بدأت أدور على ورش تدريبية في القاهرة"، بالفعل اشترك في ورش تدريبية عديدة، حتى كوّن فرقة مسرحية عام 2014 في مدينة تخلو من خشبة مسرح.
"الدنيا عندنا مش وردي".. لكن ذلك لم يجعل شاذلي يتوقف عند المعوقات الموجودة، ففضلًا عن عدم وجود مسرح برأس غارب، لا يُوجد اهتمام كبير من أهل البلد بالمسرح، كما تم اتهامهم من البعض "اتقال علينا مجانين وصايعين"، لكن المسرح كان قد أتمّ غوايته في نفس شاذلي.
"أنا تعلمت إن المبررات بتاعة الفشلة، وإني لازم أشوف حل بديل"، هكذا كوّن شاذلي فرقته المسرحية بمعاونة رفيقه "أحمد اسماعيل"، وهو مؤلف عرض "تغريبة"، يُدين الشاب بالفضل لشاذلي الذي يُطلق عليه "أبانا الذي في المسرح"، فيقول إن شاذلي هو من شجّعه على التمثيل ثم التأليف "لما لقى عندي موهبة الكتابة"، ألّف اسماعيل لفرقة إبداع نحو أربعة نصوص مسرحية، كان آخرها عرض "مولد سيدي الهذيان"، التي تتكلم عن السحر والشعوذة "وبنعرض عندنا على مسرح قاعة أفراح، أو نضطر ننزل الغردقة اللي فيها مسرح".
لكنّ عرض "تغريبة" كانت له خصوصيته، فكّر شاذلي في الاستلهام من تراث مدينته، التي كان مصدر رزق أهلها الوحيد في يوم من الأيام هو الصيد، مما نتج عنه علاقة طويلة الأمد مع البحر، أحد أشكالها كانت جلسة الونس أو كما يقول شاذلي "السامر"، حيث يجلس فيها الصيادون يهونون على بعضهم أوقات الغربة في البحر بعيدًا عن الأهل وذلك عن طريق الغناء والعزف على آلة السمسمية، ومن هنا بدأ اسماعيل في البحث وراء حكايات الأجداد، والكتابة عنها.
قرر شاذلي المُشاركة بالنص المسرحي بمهرجان الصعيد للفرق الحرة، الذي يدعّم النصوص الفائزة بالإنتاج، حتى تصل للشكل النهائي الذي تُعرض به خلال المهرجان، والذي أقيم في الفترة من 10 إلى 12 أكتوبر، هناك مرتان قدمت فيها لجنة المشاهدة لمدينة رأس غارب كما يذكر شاذلي "الأولى مشاهدة والتانية متابعة"، حيث أعجبت اللجنة بالنص، واقترحوا عليهم بعض الإضافات التي أبدت نجاحها خلال العرض.
مساء الجمعة الماضية حضر ما يقرب من سبعين شخص إلى عرض "تغريبة"، ليجدوا أمامهم عرضًا تفاعليًا يُصبحون جزء منه، في المقدمة جلس صفان من الجمهور على سجاد يقعد عند أطرافه قواقع وصدف بحرية، فيما طوّق المكان حالة من الدهشة والسحر، بينما يقف الرجل العجوز مُستندّا على عكازه، وترتفع نظرته نحو السماء مُنتظرًا الأحباب الغائبين في البحر.
استلهم إسماعيل العرض من حكايات الأجداد، تلك التي سمعها صغيرًا من والده الذي عمل كصياد، قبل ظهور البترول بالمدينة، "كان فيه حكايات غريبة زي الجنية اللي وقعت في شبكة صياد مجروحة وسلمها للحكومة المصرية وقتها"، وحكاية أخرى يذكرها شاذلي "السمسمية ليها أساطير كتيرة، معروف عنها مثلًا ان الصيادين اللي بيعزفوا عليها وهما قريبين من اليمن بيسمعوا وياهم همهمات بيتقال إنها من جن، والصيادين نقلوا الهمهمات دي زي ماهي واتحولت لأغاني تراثية عندنا".
حافظ إسماعيل في العرض على الحكايات القديمة، لم يغفل أي من رموزه، فهناك الخال العجوز الذي يستبصر المستقبل، وهناك من يُقدّم قهوة الجبنة إلى الجمهور -إحدى أشهر مشروباتهم التراثية، وكذلك مفردات مثل شباك الصيد والشراع، كما حاكى اسماعيل داخل العرض أصوات الغربان والرياح العاصفة "ودي كانت من إضافات لجنة المشاهدة"، فيما ارتدى ممثلو الفرقة العشرة الزي التقليدي لديهم "ده الجلباب و الجزء اللي تحت اسمه محزّم ودا كان بيلبسه الصيادين، واللي على الراس ده الشماخ".
حرصت الفرقة على الحفاظ على اللكنة أيضًا "كان فيه مصحح لغوي بالنسبة للكنة، وحاولنا تبقى اللكنة ما بين قديم وحديث"، فهناك لهجة قديمة لن يستطيع الجمهور فهمها نهائيًا، حوى العرض أيضًا على ثلاثة أغاني وأربعة مواويل، تتحدث عن الغربة ووجع البعد.
انبهر الحضور بأداء فرقة إبداع، لمدة 45 دقيقة نسوا وجودهم داخل قصر ثقافة أسيوط، وذهبوا عند البحر، سمعوا الأساطير التي تتناقلها الأجيال، وتذّوقوا وجع البعاد الذي شعر به أهل رأس غارب، وطربوا من الأصوات الغنائية الجميلة بالعرض، والتي استمرت في الغناء حتى بعد انتهاء العرض فرحين بأدائهم وتفاعل الناس معهم، فكما يقول شاذلي "في الآخر احنا جايين نستحظّ يعني نستمتع ونمتع، ونعرف الناس بتراثنا".
فيديو قد يعجبك: