الذكريات تستحق.. سوري ينُقذ مجلة أطفال وسط الدمار
كتب- محمد مهدي:
خفق قلب "إياد سيد" بينما يدلف رفقة أسرته إلى مدينة حمص السورية بعد ساعات من قصفها، في يونيو 2014، سيارتهم تشق الطرقات في عجالة، دمار بالأنحاء، محلات خَربة، بيوت مهدمة، شوارع لم تعد على الخريطة، كان الخوف يتجول بجانبهم كشبح ثقيل الظل، حتى وصلوا إلى منزلهم، أو ما تبقى منه، للحظات حلّ الصمت أول علامات الصدمة، قبل أن يندفع إلى الداخل، تصرخ أمه، يجذبه الأب، لكن لا أحد تمكن من إيقافه، غاب لدقائق قبل أن يعود حاملًا معه كرتونة مُكدسة بأعداد مجلة ماجد "والدي قالولي تركت كل شيء وانتبهت للمجلات؟ عندنا اشيء تانية أهم" كان لديه سِر لقراره يعود إلى 20 عاما مضوا.
لم يكن الأمر بسيطًا، أن يحصل طفل بحمص السورية، على مجلة ماجد التي تصدر بالإمارات، خلال فترة التسعينيات، لكن "إياد" فوجئ في أحد الأيام وهو لايزال ابن 8 سنوات، بشقيقه الأكبر "عمار" يحصل على نسخة من المجلة ويُهديها إليه، تعلق بها سريعًا، بشخصياتها الكرتونية موزة والنقيب خلفان وأبو الظرفاء، الألغاز والرسومات، يُرسل إجابات المسابقات دائمًا، شعر والده بذلك فصارت عادة أسبوعية أن يبحث عنها بالمكتبات ليمنحها إلى الابن الصغير "في المدينة بأكملها بيتوفر 6 أو 7 أعداد فقط، وكان الوالد يهتم بإنه يوفرهالي".
أكثر ما شدّ انتباه "إياد" إلى المجلة التي صدرت في 1979 "الاعتناء بالرسوم والتفاصيل، وعدم الاستخفاف بخيال الطفل" كانت تمنحه المعلومة مبسطة، وتمنحه أوقاتًا لا مثيل لها في عالم الخيال "ما كان فيه وقتها قنوات أو إنترنت، فكانت المجلة شيء مثالي بالنسبة لي" مع الوقت باتت شاغله الأول، يحتفظ بها في حقيبته المدرسية "الطلبة يتذكروني بصاحب مجلة ماجد وليس اسمي" وفي المنزل يحتفظ بهم في أدراج مكتبه "وأبلش –أبدأ- طول الوقت في ترتيب الأعداد حسب التسلسل وتنظيفها".
ارتبطت المجلة في ذهنه باهتمام الأب "كانت غالية سعرها 35 ليرة، ومتاح مجلات أرخص، لكن كان عنده إصرار إنه يلبي رغبتي في امتلاكها" لذا بات وصول المجلة أسبوعيًا إلى غرفته طقسًا مُحببًا إلى قلبه، وتوطدت علاقته بالمجلة لنحو 10 سنوات "في سن الـ 17 خفت الاهتمام، وقفت شراء المجلة وركزت على الدراسة" مع انتهاء مرحلة الطفول تغيرت وجهته إلى أنواع جديدة من القراءة "لكن احتفظت بالأعداد، ولو شوفت الأعداد قلبي بينبض" ولم يغير عادته في إعادة تنظيف وترتيب الأعداد من حين إلى آخر.
قبل عام 2011 كانت الحياة في حمص هادئة رغم الصعوبات التي يواجهها الأهالي، ثم دبّ الصراع بين أطراف عدة، حاول "إياد" وأسرته تحمل الأوضاع لكنها ازدادت سوءا "كل سوريا كانت طبيعية جدًا إلا حمص" فر عدد كبير من الأهالي خاصة بعد عمليات القصف التي طالت البيوت الأهلة بالسكان "في شتاء 2013 نزلت أول قذيفة هاون في الشارع عنا" تشاورت الأسرة فيما بينها، واتفقوا في نهاية الأمر على مغادرة بيتهم المكون من 4 شقق إلى مناطق آمنة.
غادرت الأسرة إلى بيت ابنتهم في مدينة أخرى ضمن أكثر من 6 ملايين ونصف نازح سوري من مدينة لأخرى نتيجة الصراع "كنا نفوت دائمًا على المنزل للاطمئنان" وبعد مرور عام جاءتهم أخبار بقصف في محيط منزلهم، لم ينتظروا، انطلقوا سريعًا إلى حمص ليجدوا حالة حَرب، لم يتبقَ الكثير من الشوارع والمنازل، حتى شاهدوا ما جرى لمنزلهم "تخيل بيتك وذكرياتك تساوت بالأرض، كل شيء في حياتك انتهى بقذيفة" لم يشعر بنفسه وهو يخترق الدمار "ما لقيت نفسي غير إني فوت –دخلت- على غرفتي، لقيت حالي بدور على كرتونة الأعداد، ما أعرف ليش فعلت هيدي القصة" حملها رغم وزنها-نحو 20 كيلو- "الناس بجوارنا بتبحث عن الأجهزة الكهربائية والأثاث، وأنا سحبت مجلة ماجد وسعيد إني قدرت أطلعهم وأحتفظ بيهم".
بقي "إياد" في سوريا، حتى استكمل دراسته الجامعة بهندسة ميكانيكا، يطمئن دائمًا على أعداد المجلة الحبيبة، أنها محفوظة في أمان داخل بيت شقيقته، ثم جاءته فُرصة للانتقال إلى ألمانيا للعمل في مجال الطاقات البديلة، سافر إلى هناك، ليُصبح واحدًا من 5 ملايين و600 ألف لاجئ سوري في دول العالم-وفق المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
مضت سنوات، تزوج وصار لديه طفل جميل، توفى الأب، أخذته الحياة في مساراتها حتى شاهد تقريرًا مصورًا عن المجلة في موقع "منشور" دفعه بغته إلى قَلب الذكريات، أعاده التقرير إلى دفء البيت قبل زواله، طفولته في حمص، ابتسامة والده، ترآءت له شخصيات المجلة "تأثرت خاصة إن الوالد توفى من شهرين، والمجلة مرتبطة في ذهني بالوالد".
مدفوعًا بمشاعره، دوّن "إياد" على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" عن والده "كان بدي أشكره على كل شيء عمله من أجلي، وماجد لأنها ساعدت في تشكيل شخصيتي وما وصلت إليه الآن" علت ملامحه ابتسامة حين أنهى الكتابة، تذكر أن آثر المجلة لم ينتهِ، ترك الأعداد لأبناء شقيقته يستمتعون بها في طفولتهم "وعندي أمل أرجع بلدي وأهدي صندوق الأعداد لابني".
فيديو قد يعجبك: