إعلان

علم مصر وتذكرة حفل.. ما تبقى من مؤسسة ثقافية فلسطينية قصفها الاحتلال

04:15 م الأحد 12 أغسطس 2018

مؤسسة سعيد المسحال الثقافية بعد القصف

كتبت-إشراق أحمد:

طيلة 14 عامًا، ظل سطح مؤسسته الثقافية ذات الستة طوابق نافذة سمير المسحال، يطل منه على قرية أجداده المهجرين إلى غزة عام 48، بضعة كيلو مترات تفصله عن جورة عسقلان، ورغم ذلك لا يمكنه الذهاب إليها، يحرمه الاحتلال الإسرائيلي من هذا. كذلك كان ذلك المبنى ملاذ محمود أبو عودة لمقاومة الحصار وظروفه الكئيبة، فيه يقدم عروض "الدبكة" مع رفاقه، لكن الاحتلال أبى إلا أن يقضي على كل نَفَس يدخل لصدور الفلسطينيين؛ فقبل ثلاثة أيام قصفت الطائرات الإسرائيلية مؤسسة سعيد المسحال للثقافة، وحُرم أهل غزة خاصة الشباب من متنفسهم.

1

في الخامسة و44 دقيقة مساء التاسع من أغسطس الجاري، انهار مبنى مؤسسة سعيد المسحال للثقافة والعلوم. شنت القوات الإسرائيلية قصفًا جويًا على غزة، فعرفت الصواريخ طريقها إلى المكان الواقع على أطراف مخيم الشاطئ، تحديدًا في حي الرمال –غرب غزة. ستة طوابق على مساحة 400 مترًا تساوت بالأرض، وبرر الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي قصف طائرات الجيش الإسرائيلي للبناء بأنه تابع لمنظمة حماس، زاعمًا أنه يتواجد داخل المبنى مكاتب لمسؤولين في المنظمة حسب قوله.

2

حملت المؤسسة الثقافية اسم سعيد المسحال، مسؤول حركة فتح في الخليج عام 1974، وهو صاحب فكرة إنشائها في التسعينات "حب يكون في مكان يعلم الفلسطينيين ثقافة الحياة، الحب ومتنفس للشاب وتجد المرأة فيه دور لها" يحكي سمير المسحال، ابن شقيقه، ومَن تولى إقامة المركز الثقافي، الذي يعد أكبر هيئة ثقافية في غزة.

عصر يوم الهدم، رن هاتف سمير، صاحب المؤسسة، أخبرته زوجته بما فعل الاحتلال؛ عجز الرجل الخمسيني عن النطق، فيما تراءت له تفاصيل المكان الذي بنته سواعده ليكون قبلة لـ"ثقافة الحياة" في غزة، واحتمل لأجله بعدما انتقلت السلطة إلى حماس، مضايقات أُضيفت إلى حصار الاحتلال حسب قوله لمصراوي.

كان سمير في القاهرة يقضي إجازته السنوية لرؤية أبنائه، على أن يلحق بزوجته، التي سبقته في العودة إلى غزة قبل أيام. عدم تواجده لحظة الخبر ضاعف الألم، واعتصر قلب الرجل حزنًا باستحضار الصور أمام عينيه "أول شي قلته كتبي. كنت بعمل مكتبة كبيرة في الطابق الرابع ونقلت لها مكتبتي الشخصية، الكتب اللي جمعتها من مصر وعمان ومناطق داخل فلسطين"، فيما تألمت روحه لذكريات لم ترتبط بالمؤسسة فقط "المبنى ده في الأصل كان بيتنا اتولدت وعشت فيه وجواه قبر جدي". أراد سمير أن يجمع المكان ماضيه وحاضره وأمله للمستقبل.

كذلك لم يتمالك محمود أبو عودة نفسه حين سمع خبر قصف المؤسسة، سريًعا توجه للمكان الذي يفصله عنه نحو 20 كيلو مترًا، حين رأى أبو عودة "المسحال" مدمرًا، خر على الأرض باكياً "تذكرت جميع الذكريات الجميلة التي سأفتقدها، كل شيء بلمح البصر أصبح رمادً. وقتها ترمدت أحلامنا وانهارت" يصف الشاب العشريني لحظة ذهابه للمكان بعد هدمه.

3

أبو عودة، أحد أعضاء فرقة العنقاء للفنون، يحافظ الشاب ضمن 110 آخرين على تراث رقصات الدبكة الفلسطينية، يمارسها منذ 10 أعوام بعدما حال الحصار وظروف غزة بين عمله بشهادة دراسته للمحاسبة، لكن قبل أربعة أعوام احتضنت المؤسسة الفرقة، وأصبحوا يقيمون حفلاتهم على مسرحها، كان آخرها يوم 27 يوليو المنصرف.

فوق سطح المؤسسة كان يقف سمير، ناظرًا إلى قرية الجورة –جنوب غرب القدس، ويتذكر أمنية جده بأن يُدفن فيها، والتي لم تتحقق، فأقيم قبره بدلا عن ذلك، في الحديقة الخلفية للمبنى حين وفاته عام 1970 "مات قبل أيام من وفاة جمال عبد الناصر وكنت بعمر 8 سنين" يقول سمير، فيما يتألم لتفكيره في تهدم القبر حال الطوابق الستة.

4

يحفظ صاحب المؤسسة تفاصيل المكان؛ في الطابق الأرضي "البدروم" كانت المعارض الفنية تفتح أبوابها، وبالصعود للطابق الأول يتجمع الرواد على المقهى الثقافي، يحتسون القهوة أو الشاي على مقاعد من خشب الأرابيسك صُممت على الطراز العربي، أما المسرح فاحتواه الطابقين الثاني والثالث، وعليه أقيمت عروض الدبكة الفلسطينية والمسرحيات المتناولة لواقع فلسطين وسط صالة حضور تتسع لـ350 شخصًا، كما ضم المبنى نادي للحاسب الآلي.

5

وفي يناير 2016 نقلت الجالية المصرية مكتبها إلى مبنى مؤسسة المسحال، يقول سمير "أغلبهم أصدقائي بحكم أن زوجتي مصرية وكان عندهم مشاكل مع العقار اللي كانوا فيه فحكيت معهم أني عندي دور فاضي"، وكذلك أصبح الطابق الخامس يحمل علمًا مصريًا على نافذته، وهو ما تبقى منه بعد القصف، حمله أحد شباب غزة ووضعه على الركام كي لا يبقى أرضًا "راح يضل العلم المصري والفلسطيني مرفرف دائمًا" هكذا قال سمير حينما رأى صورة متداولة عن هذا المشهد.

داخل المؤسسة الثقافية أقيمت ورش فنية وأخرى للصحافة، قُدمت العروض المسرحية، والمهرجانات، يقول سمير إن المكان احتضن نحو 1500 شاب وفتاة في غزة، مارسوا الأنشطة المختلفة، وتحدوا واقع الحصار.

6

كأي شيء، بدأت المؤسسة صغيرة، في منزل بمنطقة تل الهوى –جنوب غرب غزة- أقيمت لقاءات المثقفين عام 2000، قبل أن يتم الانتقال للمبنى الحالي وافتتاحه يوم 14 يناير 2004 وسط حضور شعبي ورسمي من كبار السياسيين أمثال حيد عبد الشافي –ترأس وفد المفاوضين الفلسطينيين في مؤتمر مدريد للسلام عام 91.

انهارت مؤسسة سعيد المسحال دون وقوع ضحايا. خلا المبنى من الأشخاص بعد توقف العمل نهار ذلك اليوم لظروف القصف على غزة، لكن معه سقطت الذكريات أمام عين فداء ماجد، كانت الأخيرة عائدة إلى منزلها بصحبة صديقاتها حين رأت من نافذة السيارة مكان المؤسسة خاليًا إلا من الركام "دموعي لحالها سقطت، انصدمت. صعب تشوف حلمك واقع".

7

أثناء الحرب الأخيرة على غزة عام 2014، تطوعت صاحبة الأربعة والعشرين عامًا مع عدد من الشباب في مراكز الإيواء للتخفيف عن الأطفال ممن قُصفت منازلهم، كانت تشارك في عروض مسرحية وفنية "لقيت فرحة بعيونهم وعيون أهاليهم قديش هما مبسوطين وحابين الحياة رغم الحرب والقصف فقررت أضل ارسم البسمة على وجوه أطفال ونساء أهل غزة"، وبعد 50 يومًا من الحرب التحقت فداء بمؤسسة المسحال، وانضمت لفريق المسرح لتكمل حلمها.

وجدت فداء نفسها على الخشبة، وما تشارك في تقديمه من مسرحيات "كنا نقاوم بالمسرح والفن الفلسطيني، ندافع عن أرضنا وأسرانا والشهداء ونرفض الظلم يلي بنعيشه". تقول فداء إنها كانت تقضي في المكان أكثر من منزلها "كل الكبت والطاقة وتفريغها يكون على المسرح، كان إلنا متنفس يطلعنا من واقع الحصار لكن حتى الحاجة الوحيدة الحلوة بحياتنا قتلوها".

8

في اليوم التالي للهدم، تجمع رواد المؤسسة فوق الركام. وجد أبو عودة رفاقه مرتدين الكوفية الفلسطينية وقمصانهم الحاملة لاسم فرقتهم، أخذوا يتفقدون المكان في أسى، حتى وقعت عينا الشاب على ورقة ملقاة على الأرض، كانت تذكرة آخر حفلة لفرقتهم، رغم الحزن لكن الجميع شد من أزر بعضهم البعض، تعهدوا أن يواصلوا المسير ولو فوق الحطام، مستمدين من رسالتهم القوة "طائر العنقاء لا يموت ويعود للحياة من رمادهُ ونحن أيضاً سنعود لحياتنا بكل قوة وسنقف على أقدامنا من جديد لأن شعارنا هو الحياة والتجدد".

9

أقام أبو عودة وغيره ممن احتضنتهم المؤسسة وقفة تضامنية، تعالوا بغناء النشيد الفلسطيني الشهير "موطني" وأعلنوا بقاءهم بتقديم عرض مسرحي اليوم وسط الركام، فيما دعا أخرون بمبادرة لإعادة إعمار المكان. مثل تلك الرسائل المعنوية، ربطت على قلب صاحب المؤسسة، تبدل يأسه في لحظة إلى مقاومة، وعكف على التواصل مع كل مَن يعرفهم، منطلقًا في العودة إلى غزة لاحتضان ما تبقى من الحلم، عاقدًا العزم على إحيائه من جديد.

 

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان