خسوف من قلب العاصمة.. القمر الدموي يطل على الزاوية الحمراء (معايشة)
كتبت-إشراق أحمد ودعاء الفولي:
تصوير-محمود أبو ديبة:
ظلام تام تقطعه أضواء المحلات الخارجية، تكفي جملة "طالعين نشوف الخسوف" كي يسمح أفراد أمن مكتبة الزاوية الحمراء بالدخول. شباب، أطفال وكبار في السن يجمعهم الحماس والفضول، تراصوا في صفوف طويلة أمام التليسكوب ليشاهدوا القمر الدموي.
كان العالم بالأمس على ميعاد مع الخسوف القمري الأطول في القرن الحادي والعشرين، والذي ظهر في بعض المناطق داخل أوروبا، الشرق الأوسط، أستراليا، وأغلب أجزاء آسيا وأمريكا الجنوبية، كما أن كوكب المريخ كان في أقرب نقطة له من الأرض منذ عام 2003.
في الثامنة مساءً وخمسة وعشرين دقيقة، كانت إضاءة القمر تتآكل رويدا، إذ يدخل في ظل الأرض، بينما يشرح المهندس عصام جودة، مدير الجمعية المصرية لعلوم الفلك، ما يحدث للموجودين في ساحة مفتوحة داخل المكتبة، تكشف السماء، وما حول المكان من عقارات ومحال ومدرسة بالجوار.
استندت إصلاح صابر إلى سور ساحة المكتبة، صوبت نظرها اتجاه الشرق، حيث لازال الضوء الفضي يطل في السماء. شردت السيدة الخمسينية بينما تتمتم بالذكر "لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير". عادت بالزمن لما قبل 40 عامًا والسكن في القاهرة، وقت أن كانت طفلة في السابعة من عمرها بقريتها في محافظة المنوفية "لما كان يحصل حاجة زي كده في السماء العيال تطلع تغني وتصقف".
تبتسم إصلاح فيما تجول بعينيها على الحضور الذين بينهم أولادها الخمسة أصحاب الأعمار المختلفة –أكبرهم 30 عامًا وأصغرهم في المرحلة الابتدائية، تقارن بين أوقات رأت فيها خسوف القمر صغيرة ومرتها الأولى هذه ضمن جمع يرصدونه بشكل علمي "ولادي عرفوا من على النت لكن زمان كانوا بيقولوا في الراديو كان لسه التليفزيون طالع بس مش كل الناس عندها".
حضرت السيدة لأجل أبنائها المشتركين في المكتبة. حين أخبروها برغبتهم في الذهاب، قصت عليهم أنهم كانوا يتغنون للقمر، حاولت استعادة الكلمات "كنت أشوف العيال تلف بغطيان الحلل وتقول يا بنات الحور سيبوا القمر يدور"، فيما أصبحت الأم توقن أن الخسوف "ظاهرة كونية ومن علامات الساعة" لزم ذكر الله فيها، لهذا تركت أطفالها يستمعون إلى المرشد الفلكي ويتفقدون التليسكوب، فيما انتبذت لها مكانًا شرقياً تمعن فيه النظر إلى السماء وتواصل التسبيح.
عكس ما يعتقده البعض، فالكسوف والخسوف يحدثان كل 6 أشهر "لكن لسوء الحظ مش كل الأماكن في الأرض بتشوفه"، حسبما شرح جودة للحضور، فيما استطرد "مصر شافت السنة دي خسوف واحد صحيح لكنه الأفضل والأوضح".
في الساحة المفتوحة للمكتبة، بين جمع الحضور، لم تهدأ حركة سمية صاحبة الخمسة أعوام طوال الحدث، واصلت إخبار والدتها أن تحملها لترى السماء، فيما يصيح فجأة إبراهيم الشقيق الأكبر "إيه ده القمر بين الأرض والشمس". يندهش الصغير الشغوف بالفلك، وبسببه حضرت والدته دعاء محمد قادمة من المطرية إلى مكتبة الزاوية الحمراء.
كما أنها المرة الأولى لإبراهيم وسمية، كانت كذلك لوالدتهما، ولولا حماس صغيرها ذي السبعة أعوام ربما ما فكرت بالأمر، لكن برؤيتها للجمع امتنت لرغبته؛ تفاعلت السيدة ذات النقاب هي الأخرى مع رصد الظاهرة؛ أخذت تنصت لحديث رئيس الجمعية الفلكية؛ يشير عصام جودة إلى النقطة الحمراء المضيئة أسفل القمر، يخبر الحضور أنه كوكب المريخ في أبهى لمعانه بالسماء، تسعد الأم الثلاثينية للمعلومة الجديدة "أول مرة اعرف أن الحاجة اللي بتلمع دي كوكب، كل اللي كنت فاكراه أنها نجمة".
ينتصف خسوف القمر، يكاد ينطفئ اللون الأبيض وتضفي الشمس بنورها على الجسد المعتم فيتحول للأحمر، يتحين الاصطفاف أمام أجهزة التليسكوب لرؤية تفاصيل ما يحدث، يتحمس الصغير للحظة "أول مرة أزور التليسكوب هاشوف القمر وهو أحمر"، يهلل إبراهيم بينما يتمنى بطفولة "نفسي أطلع رائد فضاء كبير".
كان الأطفال أبطال للحدث، معهم يستعيد الحضور أيامه. منذ الثانوية العامة وانجذبت هبة حافظ إلى الفلك، سحرها النظر للسماء، شغفت برحلات الرصد في الصحراء "الناس في المدن مش مستوعبين متعة السما في الحتة اللي مفهاش كهربا"، لكن فرصة التواجد في قلب المدينة ورؤية ظاهرة فلكية له مذاق خاص لدى السيدة "حاجة زي كده جميلة للأطفال لأنهم هيشوفوا بعنيهم ولما يبقى قدام الطفل تليسكوب بيبقى عايز يفهم ده إيه". تجد في مثل هذه الملتقيات فرصة أفضل لنقل ما تحب للأعمار الصغيرة، فتزيد من حبهم للفلك.
أما محمد جمال، رغم انشغاله بنقل الحدث مباشر لصفحة الجمعية الفلكية، لكنه مازال يتذكر المرة الأولى التي رأى فيها السماء عبر التليسكوب "كان في نوفمبر 2013"، بُهت الشاب، أخذت النجوم عقله، كان وقتها يدرس في كلية الهندسة "ومع الوقت قررت أسيب الكلية وأدرس فيزياء وفلك في جامعة زويل".
حضر جمال عشرات الأحداث الفلكية منذ ذلك الحين "بس كل مرة بتبسط بالسما وبردود فعل الناس". أمام تليسكوب تمتلكه الجمعية المصرية لعلوم الفلك، وقف جمال يُعدل بعض الأشياء، وينتظر "لمعة الانبهار" في أعين الذي يرون القمر للمرة الأولى عبره.
أمام التليسكوب المخصص للصغار، الذي وُضع في مقدمة ساحة الرصد، أخذت راتشيل ذات الخمس أعوام تتقدم ببطيء بينما تضع يدها على عينها اليمنى "بابا قال لي أعمل كده عشان اشوف القمر كويس". استجابت الصغيرة للنصيحة باللفتة فنفذتها بمجرد سماعها. تصل راتشيل إلى وجهتها، يحملها المشرف على التليسكوب كي تطول العدسة، ترى الصغيرة القمر وقد اكتمل لونه الأحمر، ترتسم ابتسامة دهشة على وجهها قبل أن تعود لأبيها وترتشف العصير المجهز لها.
الرؤوس مشدوهة لأعلى، والأبصار شاخصة صوب ما يلمع في السماء، رغم أضواء المنطقة الشعبية، والأصوات الصاخبة في خلفية المشهد. كانت الساحة المفتوحة بالمكتبة أشبه بعزلة تقاوم الضوضاء وزحام القاهرة المستعرّ.
أمسك عصام جودة بميكرفون، فيما يشير بيده نحو السماء بين الحين والآخر بقلم يصدر ضوء أخضر "النجم المضيء ده كوكب المشترى.. لكن اللي ماشي ده على طول قمر صناعي".
عبر موقع فيسبوك علمت أيه أحمد عن رصد الخسوف في مكتبة الزاوية الحمراء. لم تتخيل الشابة العشرينية حينما ذهبت إلى مكان الحدث أن يكون العدد كبيرا "اتبسطت جدا.. كون إن الناس تهتم بالظواهر العلمية فده معناه إن فيه أمل"، قالتها فيما تحمل ابن شقيقتها ذو الخمس سنوات.
بشكل مُبسط حاولت آية توضيح الفكرة لابن أختها "لما بص في التليسكوب ولقى القمر ناقص، قولت له إن فيه حد أكل حتة من القمر".
كانت عائشة ذات العامين تركض بين الواقفين، فيما يُلاحقها والدها إكرامي شاهين بصبر. حضر الأب الثلاثيني رفقة أبناءه الأربعة إلى مكتبة الزاوية الحمراء "محمود ابني هو اللي بيحب الفلك أوي واحنا بنشاركه"، يبلغ الشاب 15 عاما، لكن اهتمامه بذلك العلم بدأ مبكرا، حتى أن والديه يفكران في شراء تليسكوب له خلال الفترة القادمة.
الساعة تُقارب العاشرة والنصف، انفضّ الجمع جزئيا، روى الأطفال فضولهم وبدأ بعضهم في التقاط "سيلفي" مع القمر، بينما يتململ الآباء لعدم وجود أماكن كافية للجلوس، يُعلن جودة عن استمرار الظاهرة حتى الواحدة صباحاً، حيث يعود القمر لشكله الطبيعي، متابعًا أن "الظاهرة هتتكرر تاني كمان تسع سنين".
فيديو قد يعجبك: