مسجد "علي إدريس" .. مأوى أهالي "الأزاريطة" في حادث "العمارة المايلة"
كتب- محمد مهدي ومحمد زكريا:
تصوير- روجيه أنيس:
في وقت متأخر من ليل اليوم الأول من الشهر الحالي، كان أهالي منطقة الأزاريطة يغطون في النوم، بعضهم يُجهز مائدة السحور، حركة شارع الشخشاني لا تتوقف لكن الهدوء غالب، قبل أن يعلو الصراخ فجأة "فيه عمارة بتميل لقدام في شارعنا"، يصحبه نداء قوات الحماية المدنية للسكان بسرعة إخلاء منازلهم "كنت بشرب كوباية الشاي، جريت أنا ومراتي والعيال باللبس اللي علينا" يقولها "فتحي السيد" من الأهالي.
بعيدًا عن منازلهم بمسافة، اجتمع الجيران، حالتهم بائسة، هرولوا بملابس البيت "بقينا بنغطي الستات بالحصر وغطا العربيات"، المفاجأة خدرت تفكيرهم، لم يدروا ماذا يفعلون، قبل أن تتجه أعينهم صوب مسجد علي إدريس "معروف إن المكان بيفتح بابه للناس وقت الأزمات"، اندفعوا إليه بالعشرات، دون أن يمنعهم "محمد أبو غنية" خادم المسجد "أصل هقولهم إيه داحنا في وقت أزمة" يقول أبو غنية.
تحسبًا لعدم اتخاذ أي موقف ضده من قِبل وزارة الأوقاف، اتصل ابن محافظة كفر الشيخ بالإدارة، أبلغهم بما جرى "قالولي دا استثناء والمسجد لازم يتحمل الناس" تلك الكلمات باتت تصريحًا للجميع بأن المكان مفتوح لهم، إذ بات يأوي العشرات من الأسر المتضررة من إخلاء منازلهم بشكل مفاجيء، الذين انهمكوا في ترتيب أوضاعهم لحين هدم العقار المائل.
في الليلة الأولى للأزمة، انزوى "محمد أحمد" في أحد أركان المسجد، بينما صعدت والدته برفقة زوجته وطفليهما إلى الدور الثاني، الذي خُصص للسيدات، فكر الموظف البسيط في حياته الجديدة المؤقتة، مدى البؤس الذي يجب التعايش معه "كنت بروح الشغل طول اليوم وارجع على الأكل والنوم وزيي كتير، والأكل بيجي من أهل الخير".
الأعداد بعد أيام تقلصت "فيه ناس وفرولها أماكن مؤقتة للبيات في دار الشباب في الشاطبي ودار مسنين في مصطفى كامل" يذكرها خادم المسجد، الذي بات ينام ساعات قليلة في اليوم، إذ يتابع عن كثب ما يدور حوله، يحفظ الوجوه منعا لوجود غرباء، يحافظ على أجهزة المكان، ويلبي طلبات ضيوف الرحمن، ويخلد للنوم في قلق.
في دور المسجد العلوي، يقضي السيدات ساعات اليوم كاملة، تجتمعن في حلقات، تُغلبهن أحاديث المعيشة على روتين يومهن داخل المسجد، تأتيهن وجبات الإفطار والسحور من خلال تبرعات يوفرها "أهل الخير"، فيما يهون مصيبتهن تعلق جيران شارع الشخشاني بمصير واحد.
منذ 16 يومًا، تسكن "أم حليم" مسجد "علي إدريس"، تُطالب زوجها بين الحين والآخر بتوفير ملابس لها، يتسلل الرجل إلى منزلهم المحاط بقوات الأمن، تحاول السيدة التأقلم مع الأوضاع التي فرضها الحادث، غير أن آلام في ظهرها حول ساعات النوم الهادئة إلى عصيبة "جايبة مخدة، لكن ضهري وجعني من النوم على الحصر"، تقولها بينما يغلب صوتها دقات العمال أعلى العقار المائل.
معاناة بعض السيدات في دور المسجد الأعلى، لم تغب عن "أبو غنيمة". قبل عام ونصف، حضر الرجل إلى مسجد "علي إدريس"، تبادل مع زميله خدمة بيت الله كل 4 أيام، مرت أيام عمله داخل مكان العبادة هادئة، غير أن وقوع حادث "الأزاريطة" أزعج ابن محافظة كفر الشيخ كثيرًا.
الأطفال لم يستوعبوا الأمر في الأيام الأولى، كان الهلع حاضرًا، قبل أن يبدأوا في التساؤل لماذا لا يعودون إلى المنزل لمشاهدة التلفزيون واللعب، الإجابات تخرج مبتورة وساذجة، يرفضها الصغار فيزداد إلحاحهم دون فائدة "وبقيت الخروجة الوحيدة ليهم يقفوا قدام المسجد شوية" يقولها "أحمد" بينما يمسك بيد طفله..
وقت المغيب، مع حلول ساعات الإفطار، يستعد أبو غنيمة لأحد مهامه الشاقة منذ وقوع الحادث "في ناس بتجيب وجبات وتقولي يا شيخ وزعهم"، بعدها يتوجه ابن كفر الشيخ لصلاة المغرب، قبل أن يتناول وجبة الإفطار في تعب.
مع صباح يوم جديد، يداوم أبو غنيمة على نظافة المسجد "ساعة التنضيف متلقيش حد في المسجد" يقولها ضاحكًا، قبل أن يستكمل حديثه "تيجي تسأل أي حد دي زبالة مين.. الكل يقولك مش زبالتي"، رغم ذلك يهون على ابن كفر الشيخ ثواب مساعدة الأسر المتضررة.
المسجد صار عامرًا بالناس على مدار 24 ساعة، ليس للعبادة لكن للمعيشة، فيما يترقب الجميع الانتهاء من كابوس العقار المائل، يقول الموظف بالأوقاف إنهم وجهوا أسئلة لقوات التأمين ورجال الحي في كل ليلة لمعرفة الجديد "وكان الرد دايما ناقص 48 ساعة، بس عمرها ما جت".
مرت عدة أيام قبل أن يعود من فضلوا مسكن بديلًا عن المسجد "لقوا الأماكن اللي راحوها مش مناسبة"، ازدحم المكان من جديد، فيما كان الضيق الأكبر في قلب العائشون بالمكان "الواحد لا عارف يشوف أمه ومراته ولا عارف يعيش حياته" يقول "أحمد"، ينام الجميع في ساعات مُحددة، وصار بديهيًا الاستيقاظ من عِز النوم في أوقات الصلاة "وبقينا بنعتكف بالمرة، ما كدا كدا قاعدين في الجامع" يضيف "أحمد" في رضا.
من بوابة المسجد إلى داخله، يتوزع العشرات في محيطه، يغلب النوم عددًا منهم، بينما ينهمك آخرون في تلاوة القرآن، بينهم أهالي الحي وأفراد القوات المسلحة ورجال الحماية المدنية "لما حد بيتعب بيدخل يريح من الحر، الجامع كان قبل كده بيقفل بعد كل صلاة دلوقتي مفتوح للجميع".
أخيرًا، مساء الجمعة الماضية، أُزيل العقار المائل بالكامل، حالة من الفرحة امتلكت ضيوف المسجد، أبلغوا جيرانهم الذي غادروا الأزاريطة بالخبر السعيد، لكن عودتهم تأجلت لحين الانتهاء من إزالة أثار الهدم، بينما يتمنى كلا منهم عدم تكرار التجربة مرة أخرى "يارب متحصلش حاجة بعد كدا، بيوت الحي كلها قديمة وعشوائية، مش عايزين نرجع الجامع تاني".
فيديو قد يعجبك: