"بهية" تطبخ و"عاطف" يفتح مقهاه للجميع.. زوجان في حب ملتقى البرلس
كتب-إشراق أحمد ودعاء الفولي:
تصوير-جلال المسري:
في مدينة برج البرلس يبدأ يوم بهية حسن باكرا. تستيقظ ذات الخمسين عاما فجرا، تطبخ أطعمة مختلفة، تذهب لعملها كممرضة، تعود قبل الثانية ظهرا لتستكمل رحلة الطهو حتى المغرب؛ تلك الرحلة الشاقة تخوضها السيدة طوعا لمدة 15 يوما كل عام، حين تستقبل بصحبة زوجها فناني ملتقى البرلس الدولي، إذ يقوم الرفيقان على تقديم المساعدة قدر المستطاع، لا لشيء إلا "إنهم ضيوف عندنا وبيعملوا لنا حاجة حلوة فلازم نكرمهم".
مقهى صغير مُطل على البحر المتوسط، حيطانه قديمة لكنها دافئة. لا تهدأ فيه الحركة على مدار أيام الملتقى البادئ مطلع أكتوبر وينتهي منتصف الشهر. رغم الإرهاق على وجه عاطف معتصم صاحب المكان وزوج السيدة بهية لكن "إحنا بنستنى الفرصة دي كل سنة عشان يجيلنا ناس من كذا دولة ويشوفوا البلد". تفاصيل عدة تربط بين الزوجين وآل لملتقى، يقدم كل منهما ما يستطيع للمساعدة الحضور، ويشاركهم مصطفى الشرنوبي العامل في المقهى نفس الاهتمام.
منذ عشرة أعوام عاد عاطف من اليونان "اشتغلت هناك لمدة 15 سن". استقر في مدينة البرلس حيث توجد زوجته وأبنائه. لم يمتلك معتصم فكرة لمشروع ينشئه، إلى أن وقعت عيناه على كومة من القمامة بجانب البحر "أهل البلد قالوا لي الأرض محدش بيستغلها فبنرمي فيها الزبالة".
فجأة قفزت فكرة لعقله؛ حصل على موافقة من الحي، أحضر اللوادر، رفع القمامة حتى لم يبق لها أثر، وبنى المقهى "كان الكورنيش محدش بيقرب له وقتها"، اهتم معتصم بتنظيف المنطقة المحيطة بالمحل الجديد، فأتت الحملة بثمارها، إذ توافد سكان المدينة عليه، وتوقفوا عن إلقاء القمامة حوله.
تلك الثورة الصغيرة التي صنعها عاطف هي البداية لما حدث عقب ذلك بست سنوات "لما جه دكتور عبد الوهاب عبد المحسن مدير الملتقى واتكلم معايا في فكرة الرسم في المدينة اتبسطت لأن كان نفسي حد يهتم بالبرلس". كان صاحب المقهى على معرفة سابقة بمدير الحدث "عشان كدة بقيت انا وقهوتي في خدمة الفنانين كل سنة ومراتي بتطبخ لهم".
في العام الأول للملتقى ظلت بهية تراقب الرسامين، ومع الوقت صارت صديقة لكثير منهم بعدما أحست بمدى صدقهم "وبعدين طلبوا مني في مرة أطبخ لهم وعجبهم الأكل وبقيت أعمل دة كل سنة".
لا تحصل بهية على مقابل لما تفعله "باخد حق الخضار أو السمك اللي بشتريه بس"، فيما لا ينزعج زوجها من الضغط عليها "بالعكس بيشجعني وبيقولي لازم نحسسهم إن هنا بيتهم". مع الوقت زاد العبء "بقت الناس اللي تيجي الملتقى تطلب أصناف مختلفة"؛ لم يعد الأمر يتوقف على الأسماك فقط "مرة عملت لهم بط ومحشي".. تضحك حين تتذكر انبهار الرسامين الأجانب بما تطهو.
خطوات قليلة تفصل المنزل عن المقهى. داخل الأول تُساعد ابنة بهية "بتقطع الخضار معايا وتغسل المواعين بعد ما الناس تاكل". بينما في المقهى، مستقر أهل الملتقى، يُلبي مصطفى الشرنوبي طلبات الوافدين، يرصد من مكانه تحركات الفنانين، وردود فعل أهل برج البرلس تجاه المهرجان السنوي.
يرى الشرنوبي ذو الخامسة والأربعين ربيعًا أن الرسامين "بيسيبوا لنا حاجة صعبة جدا" وسرعان ما يوضح السبب "الحياة هنا ناشفة.. نطلع الصبح نشتغل عشان 30 جنيه أخر النهار"، فيما يضع الوافدون رسومات فنية مغايرة لطابع معيشتهم تملأ طريقهم، لذا انقسم سكان المدينة المطلة على البحر حول رؤيتهم لزائريهم طيلة الأعوام السابقة.
في العام الأول للملتقى "في ناس فكرت إنهم جايين يرموا شوية فلوس على الأرض ما في حاجات أهم من البوية اللي هيضيعها حبة مطر" حسبما يحكي الشرنوبي، وأخرون ظنوا فيهم الرفاهية، أنهم يأتون للفسحة؛ فسخطوا عليهم.
لكن البعض الأخر حال الشرنوبي ومعتصم وبهية وجدوا فيما يفعله الفنانون "بصمة حلوة". إذ ظهرت حركة مختلفة لسكان البرلس بعد إحياء الجدران القديمة بالرسومات "الناس اللي مكنتش بتشتغل اتحركت"، بدأت حملة نظافة من الأهالي قبل قدوم الزائرين، والأحاديث تدور حول عدم الاكتفاء بالواجهة الخارجية للمدينة "بدأت الناس ترصف الشوارع اللي جوه".. تجددت الدماء في عروق برج البرلس التي لم تكن كذلك قبل أربعة أعوام.
لكن الأمر لا يتعلق بالرسم فقط، يتذكر صاحب المقهى وجوه بعض الفنانين بالتحديد "زي عم جميل شفيق الله يرحمه اللي كان معانا السنة اللي فاتت".. يحكي معتصم عن الرسام الراحل؛ كانت لوحته على حائط المقهى أول ما تم رسمه في البرلس "كان بيعرف يشوف الجمال وكانت كل قعدته هنا معايا في القهوة وبقينا صحاب".
تلك الحالة من الود انسحبت على أطفال المدينة كذلك، إذ يطوفون كل عام حول الفنانين، يطلقون وابل من الأسئلة عن أشياء كثيرة "أنتو قاعدين فين هنا؟.. كلكم قاعدين في مكان واحد؟.. بلدكم فيها إيه؟.. بتعرفوا عربي زينا؟ بتتكلموا إنجليزي؟".
لا تملك بهية أكثر من ساعات تقضيها للطهي وابتسامة تقابل بها الضيوف، فيما تصبح أيام الملتقى مُرهقة لمعتصم والشرنوبي بسبب الضغط على المقهى، لكن السيرة الطيبة تُلاحق الثلاثة، يظل بعض الفنانين على تواصل معهم طوال العام "إحنا لو بنديهم حاجة كويسة هيبقى عشان هما كمان بيسيبوا لنا حبة جمال كل سنة" حسبما تقول السيدة.
فيديو قد يعجبك: