إعلان

بعد الإفراج.. محمود يحيى: بقيت أعرف أبص للسما.. والسجن غير اللي بيجي ف التليفزيون

05:35 م الثلاثاء 26 يوليه 2016

محمود يحيى

كتب- أحمد الليثي ومحمد زكريا:

لا تزال تلك النبضة أعلى حاجبه الأيمن مؤشرا لتوالي ويلات تداهم رأسه؛ وقفته أمام سور شارع قصر العيني الممهور بعبارة "قاطعين طريقنا" التي خطتها يداه قبلا، اعتراضه على قانون التظاهر في وقفة سلمية، وقع أقدام الضابط نحوه وعينه تموج بالشر، إلقاء البنات في ليل الصحراء، صوت القاضي وهو يردد في ثقة "الحبس 3 سنوات ومثلهم للمراقبة وغرامة 100 ألف جنيه"، النومة في "مصلب" السجن، تعذيب الجنائيين، صوت الأولتراس في الزنزانة، مهارته في صناعة الأرز باللبن، إصرار الضابط على ضربه بـ"الروسية" رغم أنه لم يقاوم، تطارده الأسئلة؛ لماذا لم يعمل بالحكمة الشعبية "الجري نص الجدعنة"، نداءه بـ"عيش حرية عدالة اجتماعية" هل أجدى نفعا، تيبس العظام في الحبس الانفرادي، الفلكة، شكل السماء المحجوب لنحو عام كامل، الحلم الوحيد طوال ليالي العتمة، السيجارة ودورها، دراجته الحزينة، الحبس ومظاليمه، تطوع رجال الشرطة في الضرب لمجرد إنفاذ الأوامر، والده رفيق "الحبسة"، الخناقة التي تنتهي بكلمة واحدة، السخان الكهربائي، وأهمية "الصرصار"، وأجواء العيد من خلف شباك الحجز، وكيف كانت 11 شهر و16 يوم كفيلة أن تجعل من محمود يحيى شخص غير الذي كان. 

1

رغم مرور قرابة العام على خروج محمود يحيى في عفو رئاسي ليلة عيد الأضحى الماضي، إلا أن رؤيته لرجال الشرطة في الشارع تولد لديه مرارة لا تُمحى "بحس إني بيننا حاجز فظيع، بالنسبة لي بدلة الداخلية يعني تعذيب وسادية، اختلال العدل، عقاب الظالم والمظلوم، الافترا دون سبب، القتل بأمر الباشا والتعذيب على الكيف".

مفردات قاموس السجن لا تزال عالقة بأنفاس محمود، فينادي والده بـ"يا زميلي"، يستخدم مصطلحات الجنائيين "السجن زي الجواز"، حتى الكلمة الوحيدة المرتبطة بجدران الزنزانة لا تزال تلازمه، فكل سجين يرد على سؤال "عايز أيه؟" بلفظة واحدة "عايز أروح"، لذلك حين يأتي موعد مغادرة محمود لعمله الحالي ويقول له صاحب العمل "مش هتروح"، يتبادر إلى ذهنه كيف كانت الكلمة حلما تعوقه جدران وتكبيل وأسوار وكبت للحرية والأنفاس، ويخيل إليه أن باب العمل ربما يقف أمامه جاويش يأبى على الفتح.

الوافد الجديد في دنيا السجن ليس مجرد زائر عابر بل شخص يحمل في طياته ملامح الشارع، ذلك "العزيز" الذي افتقده المسجونون "أول ما المساجين عرفوا إني مش مترحل من سجن تاني، وإني جيت من بيتي ع المحكمة ومنها على السجن اتلموا حواليا" يتذكر أول لحظاته داخل الزنزانة، راح السكان الأصليون يمطرون محمود بالأسئلة، هل تبدل شكل الناس، صوت الباعة، منظر السماء، ركوب المواصلات وبديهيات لم تعد ضمن قاموس يومهم الرتيب، ظل محمود يحيى ورفاقه في قضية مجلس الشورى على ذمة التحقيقات وبين سراديب المحاكم لنحو 20 جلسة تنتهي بالتأجيل وأحكام تنتهي بكفالة وإخلاء سبيل قبل أن يتم التحفظ عليه في نهار 27 أكتوبر 2014.

قبل جلسة التحفظ بعشرة أيام كانت نفس محمود تخبره بأن الجلسة القادمة ستقوده للسجن، لذا اتخذ إجراءاته التحصينية "كلمت كل الناس اللي أعرفها حتى أصحابي القدام وودعتهم، قلتلهم يمكن منتقابلش قريب، وفهمت أمي وأخواتي يكونوا شداد لأن أنا وأبويا في نفس المركب"، فيما كان الوداع الأخير من نصيب قرينته في الحياة "فريدة" –دراجته- تلك التي كانت وسيلته في نشر أفكاره الاجتماعية والثقافية والسياسية بلافتات تعلوها عن حل أزمة القمامة مرة والتحرش تارة والصمت على القهر مرات، ويطوف معها مناحي القاهرة، مستغنيا بها عن أية مواصلات، فوقف إلى جوارها وراح يحدثها "معلش أنا هسيبك مع أنس أخويا ومش عارف أنا راجع أمتى، خلي بالك منه زي ما هو هياخد باله منك".

في إحدى ليالي السجن طلب الشاب العشريني من رئيس المباحث أن يُصنِع عجلة بدائية يمارس عليها المسجونون الرياضة "قلت له الفكرة مش هتكلفك حاجة هاتلي الحديد واللحام وأنا هعملها والرياضة هتقلل من أزمات الحبس"، فما كان من الشرطي إلا أن نهره وهو يقول "أنت هتهزر إحنا سجننكم عشان نكدركم.. أنت لو بصحتك هتخرج من هنا تعبان".. خلال فترة السجن اضطرت الأم لغلق محل الأدوات الطبية بالمنيرة –مشروع ولدها، فيما قرر محمود أن يقترب أكثر وأكثر من عالم الدراجات، فهو يعمل حاليا لدى محلات أبو الجوخ المتخصصة في دنيا "العجل".

ظل محمود فترة كبيرة منغمسا في تفاصيل السجن حتى بعد خروجه "كنت بقابل الناس في الشارع أصحاب عمر بس ناسي أساميهم، طول الوقت مسيطر عليها أسامي زمايل الحبس وتفاصيلهم". قبل أشهر من تجربة السجن حلم محمود برؤية تحققت؛ أبصر وقتها عددا من البشر ذو وجوه متجهمة وتعرف عليهم بالاسم فكانوا رفاق السجن لاحقا "بس دول بقى كانوا رجولة الدنيا والأخرة".

جورب متهالك أكثر ما يعتز به محمود من عام السجن، يرتديه دوما، تحصل عليه هدية من مسجون جنائي "واحد من جدعان الزنزانة" كما يطلق عليه، دخل السجن غدرا بسبب مشاجرة أمام مكتبه بحي الهرم استخدم فيها أحد العمال سلاحه الموجود بالمكتب فتسبب في مقتل شخص، وكان السجن من نصيبه "لحد دلوقتي بروح أطمن على مراته وعياله وعارف مكان شغله".

"ياما في الحبس مظاليم" عبارة يؤمن بها يحيى، فالفضيلة الأسمى داخل جدران القبو هي الاعتراف: "جوه السجن اللي مش مظلوم بيقول، اللي قتل بيعترف، واللى سرق بيقر، واللي بيتاجر فى المخدرات شرحه، واللي مظلوم بيقول أنا مظلوم، واللي مش مظلوم وقال إنه مظلوم بيقع فى الكلام.. أصل تخيل أنت قاعد 23 ساعة فى اليوم فى مساحة 8*3 مع 24 شخص وبنخرج ساعة واحدة تريض وكل حاجة بقى جوه أكل وشرب وغسيل وحمام، أنت لو حلمت الى جنبك هيشاركك فى الحلم.. محدش يقدر يكدب، كلنا عريانين من جوه والصراحة بتعرف طريقها للجميع".

ما أن يمر محمود على مشهد للسجن عبر التليفزيون حتى تنتابه حالة من هيستريا الضحك، متذكرا لحظات الأسى والكبت والتعذيب "في السجن كنا بنتفرج على مسلسل حبيشة وكنا بنفطس م الضحك، ونقول بقى ده سجن وده مسجون انتوا بتهرجوا ولا أيه؟".

مشهدان لا يغيبان عن ذاكرة محمود رغم انقضاء مدة الحبس، الأول حين حُجزت والدته بالقسم ليلة كاملة بعد اعتراضها على منع دخول طعام لذويها، وقتها فقد السيطرة على أعصابه، وتمادى فى السباب رغم محاولات والده لتهدئته، إلا أن شعور الظلم والغضب كان مسيطر تماما "هاتلى بشر يستحمل ده، أصل أنا مظلوم معملتش حاجة، لا سرقت ولا قتلت، أنا بس وقفت على رصيف ورفعت يافطة"، المشهد الثاني لأحد الجنائيين عائد من محاكمة وكان العرف أن يجبره المخبرون على إفراغ ما في جوفه كرها بشرب زجاجة مياه كي يتأكدوا أنه لا يحمل أي مخدرات تم بلعها في فترة خروجه من السجن "المرة دي كان عيل اسمه كشري كان عنده القلب وغلبان جدا، ومع الإزارة رقم 11 فرفر منهم.. وطبعا حطوا جنبوا سولفانة فيها برشام عشان يقولوا إنه هو اللي أجرم فيستحق الموت!".

دخان يتطاير من سيجار أحد المارة، تكسو وجه الشاب ابتسامة خفيفة، يعبر عن امتنانه للإقلاع عن التدخين، إحدى الإيجابيات في مرحلة ما بعد السجن، ويتذكر معها كيف كانت السجائر وسيلة المقايضة الوحيدة بالداخل "بالسيجارة أنت ملك، هي العملة الوحيدة، تجيب بطاطين أو أكل وكل اللي نفسك فيه بسيجارة".. الطريف أن محمود كان مدخنا شرها وقبل العفو الرئاسي بأربعة أيام اقترب منه والده وهو يقول له "أنا عملتلك خطة عشان تبطل سجاير.. أنا هخلي العلبة معايا وأديك منها كل ما تطلب، ونقلل الكمية شوية شوية لحد ما نخرج"، ضحك محمود ملء شدقيه وهو يوافق على الخطة، فكان أول قراراته بعد البراءة هي الإقلاع عن سماء التدخين.

لم تعد كرة القدم إحدى اهتمامات الشاب الثلاثينى منذ وقوع حادث بورسعيد، غير أن الملل أجبره على المتابعة، في الليلة الأولى لحبسه الانفرادي وهو ينصت لأصوات أولتراس زملكاوي المحبوسون على ذمة قضية الدفاع الجوي "كان ماتش الأهلى والزمالك، وأنا أهلاوى، وهما قلبنها درمغة"، مرت الليلة الأولى فى هدوء لم يعتده داخل زنزانة تتكدس بالسجناء، غير أن اليوم التالي أغرقه في تفكير عميق؛ أحلام تراوده، انتصارات وانكسارات عايشها، تذكر وقت كان طفلا، ذكريات الأب والأم والأصدقاء، تساؤلات لم يجد لها إجابات -والوقت لا يمر، تلاها إحساس بوادر جلطة "كنت ساعتها نايم على ضهرى، وباصص للسقف، حسيت بشلل نصفى لمدة 30 او 40 ثانية، فقمت وحاولت اعدل نفسى، واضرب على جسمى، وعلى وشى.. كان إحساس رهيب بالعجز.. عشان كدة متمناش إن أي حد يعيش تجربة السجن الموضوع مؤلم جدا".

يتنقل محمود بين غرف شقته بعد ضيق الزنزانة، فتقع عيناه على سخان كهربائي بدائي الصنع، احتفظت به الأم بعد أن منعت إدارة السجن دخوله فى إحدى الزيارات، فيما كان رفيقه بالداخل "السخان ده معمول عشان يكهرب الناس.. بس له معزة خاصة في قلبي"، كان الشاب العشريني الطاهي الأمهر داخل الزنزانة، يصنع لرفقاء السجن ما لذ وطاب، فيما كان طبقهم المفضل أرز باللبن "كنا ما بنصدق نلاقي مناسبة عشان نفرح، نجاح أخ أو فرح بنت، ووصل صيتي لبرة ففي الزيارات الناس تقولي المرة الجاية هنستناك تعملنا رز بلبن".. ينوي محمود أن يُطعم والدته من صنيعة يده فيما يُقسم وهو يضحك "بس بشرط هعمله على السخان الكهربا.. من غيره الأكل مالوش طعم".

"قبل السجن مكنتش أعرف أنام غير على حرف السرير" يقول محمود عن عادات اتخذت وقتا ليعاودها بعد خروجه، عقب البراءة انتقل لسريره ولازَم الحائط كما كان موضعه في "مصلب" السجن، فيما كان النوم بأول أسبوع لمحمود في منزله على السرير أشبه بالمستحيل "نزلت المرتبة ونمت على الأرض، اللي متعود على نومة السجن السرير يوجع جسمه".

ود يحمله محمود في قلبه للصرصور، لم يعد يتأفف منه كالسابق، حشرة ضئيلة تحفظ هيبتها داخل زنزانة ضيقة تتكدس بالمحبوسين، لا أحد يحاول قتله، يقول محمود "المسجون الجنائى يقولك الصرصار ده اخو المسجون، واحنا ضيوف عليه"، يتذكر محمود حديث طريف يدور بين اثنين من الجنائيين، عندما حاول أحدهم قتل الحشرة فمنعه الأخر بقوله "أنت عارف الصرصار ده بكام؟، ده برشامة الصراصير ب8 علب سجائر".

عام كامل كان منظر النجوم وليل السماء بعيدا عن نظر محمود، فساعة التريض صباحا، وحتى الخروج للجلسات كذلك، ولم يكن أمامه سوى حل وحيد هو ادعاء المرض، غير أن والده نهاه لشدة التبعات "الموضوع كان هيجنني يعني أيه بني أدم عايش ومش عارف يشوف السما بالليل"، لذلك أول ما فعله محمود في طريقة للمنزل عقب العفو هو أن أخرج رأسه من نافذة السيارة طيلة الطريق موجها بصره قبل السماء، عسى أن يعوض ما فاته من حق منتزع بالقوة.

قبل يوم من عيد الأضحى العام الماضى، أصدرعبد الفتاح السيسى عفوا رئاسيا بمقتضاه أصبح "محمود يحي" حرا، يتبادل التهانى والقبلات مع عائلاته الصغيرة، يتنفس الحرية التى افتقدها لشهور طويلة، يستعد لقضاء أيام العيد وسط أصدقائه ومحبيه، غير أن أجواء العيد أعادته للخلف شهور قليلة؛ قضى فيها عيد الفطر داخل السجن، طيلة 24 ساعة على مدار اليوم حبيس زنزانته، لم يكن مسموح بساعة تريض معتادة يوميا، فغياب الضباط والمخبرين عن مقر عملهم لقضاء إجازة العيد، حالت دون خروج المحبوسين طيلة ثلاثة أيام متواصلة، قضاها محمود يرد على رسائل كانت وصلته منذ دخول محبسه، وكتابات كثيرة "كتبت فيما لا يقل عن 30 او 40 مقال، رغم أن الورقة والقلم ممنوعات بالنسبة للسياسي بس كانوا معانا تهريب"، كانت الكتابات بمثابة المتنفس الوحيد تلك الأيام "الكتابة خرجتني برة الزنزانة وبرة سور السجن".

لم يعد محمود مهتما بالشأن العام، لا ينشغل سوى بأسرته وعمله ودراجته، حتى الصحف التي كان يفندها بالسجن لم تعد تعنيه "الثورة الجاية مش هشارك فيها، أو على الأقل مش هبقى في الصفوف الأولى، إحنا نادينا قبل كدة بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية ومنبناش غير السجن والقهرة والناس بتكمل مشي في الشوارع ومبتعبرناش".

تابع باقي موضوعات الملف:

1-      "صلاح" و"عبد الخالق".. توأم حمل السجن إلى الحياة

undefined

2-      ستة أشهر داخل "مركز الكفار".. ما فعله السجن بـ"طه"

undefined

3-      ياسين "سجين سياسي": اللي عاش عمره "سجن وضرب" صعب يتعود على الحياة الطبيعية

undefined

4-      المجلس الدولي العربي لحقوق الإنسان: التطرف والجنون مصير السجناء بعد خروجهم (حوار)

undefined

5-      "العرابي" بعد السجن.. مايزال حبيس عنبر "ج" في طرة

undefined

6-      أحمد الدريني يكتب- الشيخ أحمد.. زنزانة العريس الراديكالي

undefined

7-      مساجين برة الزنزانة.. الحياة "عنبر" كبير (ملف خاص)

KgJIcwI

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان