"عم جمال".. مواطن جعل "الماريونت" يرقص على "الشعبي"
كتبت- علياء رفعت:
بجوار إحدى النواصي في منطقة وكالة البلح وقف مُستكشِفًا للوضع. اطمئن لعدم وجود الأمن وكثرة العابرين، فما كانت إلا دقائق معدودة حتى أزال عن ظهره "شوال"، أفرِغ محتوياته بمنتهى السرعة، فإذا به يحوي عروستين من الماريونيت وكاسيت متوسط الحجم.علق الكاسيت حول عُنقه وأدار زِره فصدرت عنه نغمات بعض الأغنيات الشعبية، امسك عرائسه كُلٌ في يد، وبدء عرضه الخاص. الأغاني الشعبية تجذب انتباه المارة، وحركات الماريونيت التي يجيدها "جمال" تجذب الأطفال، فيُفلتون على إثرها أيدى أمهاتهم ويتجهون نحوه مُستمتعين بالعرض الذي يقدمه في الشارع.
يرتفع صوت إحدى هؤلاء الأمهات وهى تتساءل عن سعر العروسة الواحدة بعدما دفعتها صغيرتها لشرائها. "دي بـ 75 ج ودي بـ 100".. قالها عم جمال مُجيبًا سائلته ليتمم بعد مفاوضات عملية بيع العروسة الأولى، مُفسِرًا أن الأسعار تتفاوت حسب الخامات التي يتم استخدامها في تصنيع العروسة وهو أمر لا يحدده إلا صانعها، فالخامات تختلف من عروسة لأخرى وحسب طلب الزبائن كما يؤكد "أوقات بعمل عرايس بالطلب، وأحيانًا أحط المزيكا جواها، حسب الزبون ما يعوز".
خُطى جمال في عالم الماريونيت قادتها الصُدفة البحتة، فالرجل الخمسيني الذي قضى عشرين عامًا من عُمره في صناعة العرائس لمحبتها يعمل بالأصل "سائق تاكسي" بطنطا، يجاور السيد البدوي، وينقل سُكان المدينة وزوارها إلى حيث يشاءون "خدت الابتدائية وبعدها مكملتش تعليمي، كان لازم أشتغل عشان أساعد أهلى" كان ذلك هو السبب الرئيسي الذي دفع جمال لترك دراسته والانغماس في سوق العمل مُبكرًا، ليتنقل بين عِدة مِهن قبل أن يستقر به الحال كسائق لسيارة أجرة.
إلى جانب عمله كسائق، كان جمال يُدمن مشاهدة عروض العرائس المسرحية، يعلق عينيه على العروسة الراقصة بالعرض، ويلاحظ بدقة كيفية تمايُلها يمينًا ويسارًا كُلما حرك من يمُسك بها يديه. يتقدم به العُمر ولا يفارقه حُلم صناعة عروسة كالتي يُشاهدها ومن ثم تحريكها ولو لمرة واحدة، حتى جائته الفرصة الذهبية كما يصفها وهو في أوائل الثلاثينات من عُمره. حصل أخيه الأكبر على عمل بالمسرح القومي في القاهرة، مما جعله قريبًا من مسرح العرائس الذي حضر به العديد من المسرحيات، والتي كان يصفها لـ"جمال". تنقل الأخ الأكبر بين غُرف صانعي العرائس -بحكم عمله- والتقط بعينيه تفاصيل الصَنّعة، ثم اصطحب جمال إلى القاهرة في يومِ لمشاهدة أحد هذه العروض.
يومها ولدى عودة الأخوين، أصر جمال على أخيه أن يرسم له تكوين جسد العرائس كما يراها في غُرف صانعيها، ليبدأ بعدها طريق البحث عن كيفية صناعتها، حتى يُتقن الصَنعة تمامًا. "أول عروسة عملتها في حياتي كان شكلها يضحك، ووسطها ولا وسط البلد" قالها جمال ضاحكًا وهو يصف باكورة إنتاجه في عالم الماريونيت، والذي تحول من مجرد هواية إلى مصدر للدخل بعد أن قام بعمل بعض التعديلات على العروسة واستطاع بيعها بسعرِ مناسب.
"مع الوقت علّمت نفسي بنفسي كل حاجة، بقيت أجدد في شكل العرايس، وأحركها ولا المحترفين" تلك الخبرة التى اكتسبها جمال بالمحاولات الدؤوبة جعلته يفكر في تخصيص يومي إجازته أسبوعيًا للنزول إلى القاهرة وبيع العرائس التي يصنعها كما يقول "لقيت إنى ممكن أكل من ورا هوايتي دي عيش". وسط البلد كانت الخيار الأول لجمال الذي اعتاد القدوم من طنطا للتجول بين شوارعها المختلفة حاملًا عرائس الماريونيت ومُقيمًا لاستعراضاته المُبهجة في الشارع، فيلفت إليه الأنظار ويقوم ببيع العرائس.
"وسط البلد مبقتش أمان زى الأول، العساكر في كل حته، والناس بقت بتخاف تتجمع حوالين العرايس" كثرة التظاهرات والتواجد الأمني الكثيف بشكل دوري في مُحيط وسط البلد هو ما دفع جمال لتغيير أماكن تواجده وإقامة استعراضاته، ليستقر به الحال متجولًا بين شوارع الوكالة التي يصفها بأنها "دايمًا زحمة، وفرصة شِرا الناس للعرايس هنا أكبر".
الشُهرة التي اكتسبها "عم جمال" كأحد أعلام وسط البلد على مدار سنواتٍ؛ فتحت أمامه آفاقًا عِدة. "متعهدين الحفلات بقوا بيطلبوني بالاسم" قالها جمال بفخر صاحب الصنعة الحريّف ليستطرد "الناس مبتشوفش العرايس غير في المسرح، لكن أنا باخد عرايسي وأعمل بيها استعراضات في الشارع، الحفلات وأعياد الميلاد، الكل بيتبسط، وأنا ربنا بيراضيني من وراها".
فيديو قد يعجبك: