678 يوم في السجن.. وأصبح فؤاد "عمر" و"أمنية" فارغا
كتبت-إشراق أحمد:
أطلت برداء زفافها الأبيض، بين جمع المشاركين بالوقفة الاحتجاجية، المنُظمَة على سلالم نقابة الصحفيين. وقفت أمنية مجدي وسط الهاتفين، عروس بلا زوج، ولا محتفلين، فقط تقبض على صورة عريسها المرسومة، تتتبعها نظرات المارة والوقوف، تستشعر بها إحساس شفقة واستعطاف ما أرادته، فقد رغبت في الصراخ، بأن ثمة حياة تدمر ظلما، أن تحكي عن الصحفي عمر علي عبد المقصود، مَن انقطعت به السبل قبل 15 يوما من الزفاف، وأن تنال الصرخة منها فتُثبت أقدامها لمواصلة السير، فقط أرادت إعلام الناظرين "أن عمر محبوس بين أربع حيطان وأنا محبوسة في دنيا واسعة".
عامان إلا 52 يوما مكث بها "عمر" –المصور الصحفي بموقع مصر العربية- في السجن، بعد القبض عليه 14 إبريل 2014 من منزل عائلته بالمنصورة، هو وشقيقيه "إبراهيم" و"أنس" -16عاما-، بتهمة حرق سيارتين ثم التظاهر، لم يشفع تقديم عمله ما يثبت تواجده بالقاهرة فترة الاتهام الأول، وقبوعه بالسجن في الاتهام الثاني، ليخلو منزل آل "عبد المقصود" منذ ذلك الحين من أبنائه، ويصبح فؤاد "أمنية" فارغا إلا من ذِكر زوجها، الذي أتم عقد قرانه عليها في 27 ديسمبر 2013، وظلا على عهد انتظار الزفاف، حتى هذا الوقت، لا يجمعهما سوى سويعات شهرية، يسرقان بها لحظات، تربط على قلوبهما.
استنفذت "أمنية" كافة السبل، ينقطع الرجاء بمن حولها، مع مرور الأيام، يتناقص الجمع، فيما يفصح لها "عمر" عن إحساسه بكونه "منسيا"، يصدر حكم في 19 يناير 2015 بالمؤبد 25 عاما، ويسقط لكونه غيابيا، يغوص قلبها في حزن، ينفجر بعد خطاب أخير لزوجها، يخبرها أن تعيد التفكير في علاقتهم، استشعرت الجدية هذه المرة عن سابقها، فيجن جنونها، وتقرر فعل شيء، يتواكب مع موعد جلسته في 21 فبراير2016، ولم تجد شيئا أكثر إيلاما من فستان زفافها، فعزمت أن تقهر مصدر الألم "كنت بطلعه كل شوية ألبسه.. وبيجي عليا لحظات عايزة أولع فيه.. كان واجعني".
فاجئ فعل "أمنية" الجميع "اللي يشوف أمنية وهي جاية أول يوم شغل مستخبية في عمر وجايبة باباها معاها ميصدقش إنها تعمل كده" قالتها إحدى زميلاتها بالعمل، فقبل عامين وحتى وقفة نقابة الصحفيين، كانت خريجة الفنون الجميلة فتاة خجول في زمرة الغرباء، تختبئ في حضرة شريكها، لا تفقه شيئا عن السياسة، الثورة بالنسبة لها حدث رأته بعيون خطيبها، فهو نافذتها على ما يجري، ورغم عملهما بمجال الصحافة، لكنها طالما اكتفت بتخصصها كمصممة فنية، مقابل انصاتها له باهتمام.
تعاهد "عمر" و"أمنية" أن يقتسما الحياة منذ ارتباطهما عام 2007 "لكن مكنش ضمن احتمالاتي أن عمر يتسجن"، لذا لم تستوعب نبأ القبض عليه للمرة الأولى أثناء تأدية عمله المكلف به، في التاسع عشر من فبراير 2014، بتصوير "سبوع" مولود إحدى المحتجزات تسمى "دهب" -قبض عليها عشوائيا، وتداول الإعلام صورتها وهي مكبلة بينما تضع وليدتها التي اسمتها "حرية"- وكان ردها على الصديق الذي أعلمها "يعني إيه عمر اتقبض عليه؟"، فهذا حقا ما اختبرته "أمنية" للمرة الأولى؛ أن تعرف كيف يُسجن شخص لعمله، بتهمة لا أساس لها.
670 يوما ظل "عمر" –ولازال- محتجزا احتياطيا، لم تكن الأقسى على "أمنية"، رغم غيابه عنها، والخوف المحاصر لروحها، بل الـ19 يوما، التي قضاها بقسم الزاوية الحمراء، قبل نحو شهر من سجنه ثانيةً "الفترة دي كانت أصعب عليا من السنتين.. كنت حاسة أني بحلم" تقول "أمنية"، إذ شاركت الشابة زوجها في معرفة طريق الاحتجاز نتيجة عمله بالصحافة، فرغم الإفراج عن جميع مَن تواجدوا معه في شقة "دهب"، لكنه مَن اتهموه "إنه من قناة الجزيرة"، ليبقي بالحجز حتى 11 مارس ويخرج بكفالة.
"كانوا بيصقفوا على وشي" هكذا بدأت علاقة "عمر" بالسجن في المرة الأولى، وكذلك "أمنية" بعد أن أخبرها، فعرفت سبب مشكلة السمع، التي ظل يعاني منها لأيام بعد الإفراج عنه، والتورم المصاحب لفمه، ونظرة الانكسار تلك، التي لم ترها بعينه من قبل ولا بعد احتجازه مرة أخرى، فضلا عن تلقفها لمفردات جديدة على لسانها، وأماكن لم تخطوها قدمها قط " محكمة، نيابة، حبس".
لم تستوعب الشابة العشرينية في بداية الأمر، الذعر الذي أصاب زوجها بعد يومين من الإفراج عنه، صراخه حين مرض وارتفعت حرارته، وأخذ يبكي ويناديها "إلحقيني يا أمنية دول قدامي هيقبضوا عليا تاني شوفي اللي في إيديهم"، معددً أسماء مَن تناوبوا ضربه بقسم الشرطة تلك الأيام، لكنه انتقل إليها، فحملت منذ ذلك الحين هاجس القبض على زوجها مرة أخرى، وزاد إلحاح حلم السفر خارج البلاد، الذي اشتركا به منذ ارتباطهما عام 2007.
اتفقا الزوجان أن يسعيا للسفر إلى ألمانيا، فستكمل هي دراسة الماجستير، فيما يعمل هو بالوكالة الألمانية، حتى أنهم ساروا نحو تعلم الألمانية، ورغم عدم مجيء الفرصة بعد، لكن الصحفي لم يكف عن المحاولة، فأرسل إلى هيئة الإذاعة البريطانية "Bbc"، والحياة اللندنية، غير أن السجن كان أسبق من تحقيق حلمه بالعمل الذي قُبل به بينما هو محتجز، وكذلك من إقامة الزفاف، رغم تعجيلهم موعده، ليكون الأول من مايو بدلا من أغسطس.
تغيرت خطط "أمنية" منذ الرابع عشر من إبريل2014، لم يلتقيا بمنظم الزفاف لحجز مكان إقامة العرس، كما خططا مساء اليوم السابق، لم يحضر "عمر" إلى القاهرة بعد زيارة أهله، ومر شهر مايو لعامين، دون إتمام الفرح على شاطئ بحر العين السخنة حسبما حلموا، واستماتوا لإقناع الأهل، الذين نزلوا لرغبتهم قبل يومين فقط من هذا التاريخ، لكن وجهة العروس صارت إلى الأقسام والمحاكم، حتى استقرت إلى سجن جمصة، حيث يتواجد "عمر".
حرق سيارتين بميت غمر لمواطنين قائمين على حملة جمع توقيعات للمرشح الرئاسي حينها عبد الفتاح السيسي، والانتماء إلى جماعة الإخوان المحظورة، تلك التهم التي وُجهت إلى المصور الصحفي وشقيقيه "إبراهيم" و"أنس" وصديقه عبد المنعم –قُبض على الأخيرين باليوم التالي 15 إبريل- ليظهروا جميعا في القضية الحاملة لرقم 2989 لسنة 2014 قسم ميت غمر، والمقيدة برقم 2443 لسنة 2014 كلي جنوب المنصورة، قبل أن توجه إليهم تهمة جديدة في 21 سبتمبر 2014 بالتظاهر، بعد إخفائهم لنحو أسبوع، ظهروا بعدها في نيابة السنبلاوين، بمحضر يحمل رقم 22042 لعام 2014 جنح المنصورة.
يتضاعَف الضغط على الزوج؛ يتنقل الزوج وأشقائه ورفيقهم الرابع، بين ثلاثة أقسام للشرطة –ميت غمر، ميت سلسيل، السنبلاوين- تلتاع لعدم قدرتها على السفر أحيانا كثيرا، فيما تراه لدقائق إن تمكنت من اللقاء، تأتيها أنباء تعذيبهم كلما انتقلوا لمكان احتجاز جديد، من نزغ ظفره لتكرار الدهس على رجله، زحفهم عرايا على بطونهم، بينما يتبول عليهم أفراد الأمن –حسب قولها-.
بمرور الوقت تعتاد سماع تفاصيل التعذيب، لكنها ظلت لا تستطع تخيلها، بل تحرص ألا تفعل، رغم ذاكرتها البصرية، نتيجة حبها للرسم "كل لما تتكون في لحظة صورة عن تعذيبه بخاف وبمسحها بسرعة"، تقاوم "أمنية" كل كلمة ترسل إليها بخطاب، يحدثها فيها "عمر" عما يلم بهم، صوت بكاءه الذي لم يكن كسابقه، صراخه بعد أربعة أيام من احتجازه وشقيقيه بقسم شرطة ميت غمر كأنما يستغيث "بهدلونا يا أمنية بهدلونا".
تزداد الأمور سوءا، رغم الحصول على حكم بإخلاء السبيل لمرتين، ومعها يكتسب "عمر" و"أمنية" إدراك التعامل مع الأمور، يفرح الأهل بقبول استئناف المحكمة في أغسطس 2014، تنطلق الزوجة إلى دمياط، لتلقي نظرة أخيرة على أثاث منزلهم، ليواكب تجهيزه خروج "عمر"، غير أن الآمال توأد مع اتصال الزوج باليوم التالي يخبرها أنهم بطريقهم للمحكمة مرة أخرى، لأن النيابة تقدمت باستئناف، دون علم المحامين أو الأهل، لهذا حين صدر الحكم بالمرة الثانية في 11 سبتمبر، لم تنضم لفرحة الأسرة، بل أخذت تبكي ذاته "اكتشفت أن الأمن مش عايز يخرج عمر وأخواته".
انقبض صدر "أمنية" لأول مرة حين سمعت رئيس مباحث ميت غمر صارخا بوالد زوجها بينما يدفع الكفالة كما أقرت المحكمة "أنت عايز ولادك يخرجوا عشان يخربوا البلد.. عيالك أخوان ومش هيخرجوا"، حينها التقت "عمر" على غير المعتاد وهي عبوس قائلة "الراجل اللي بره ده مش ناوي على حاجة كويسة خلي بالك من نفسك"، وتأكد حدسها، بعد التعنت في أخذ الكفالة، ليعلم الأهل النية بعمل محضر "تعجيز" وهو ما يعني استمرار حبس الأبناء، تنفيذا لكلمات رئيس المباحث، الذي زاد انفعاله بعد نجاح الأب في دفع الكفالة قائلا "ملكش عيال عندنا، وهنخرجهم وقت ما أحنا عايزين".
اختفاء "عمر" كان الأصعب على الإطلاق بالنسبة "لأمنية"، نحو أسبوع-11 إلى 21 سبتمبر- لا تعرف الزوجة مكان شريك حياتها، زاد قلقها مع رد قسم ميت غمر "أحنا خرجناهم إمبارح بليل متأخر منعرفش عنهم حاجة"، تزاحمت المشاهد في رأسها، غضب رئيس المباحث، خطاب "عمر" المسرب لها، عما يثار عن إخفائهم، قلبه الضعيف الذي لا يحتمل مزيد من الألم البدني، تخيل وصول نبأ "عمر مات"، كلها تنهش روحها، حتى وصلت لحالة من الرضا "يظهر حتى ولو بقضية جديدة"، لذا حينما تحقق هذا، بدت أكثر ثباتا.
ذهب الأمان من نفس "عمر" وزوجته منذ سجنه، تحول هاجس القبض على زوجها -الذي تحقق- إليها هي "كنت لفترة بروح أنام تحت رجل بابا لأني حاسة أن حد هيدخل وياخدني"، يرافقها الخوف فجر كل ليلة، منذ القبض على زوجها فجرا، فتظل مستيقظة تلك الساعة، تدعو الله إن وقع القبض عليها، ألا يصيبها ما أصاب "عمر"، فلا يمسها أحد، ولا يتضرر أشقائها.
ذاقت "أمنية" خذلان متوالٍ، تتذكر موقف جورج إسحاق عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، الذي انكر معرفته بقضية "عمر"، رغم تأكيدها أنها كانت على تواصل دائم معه، خاصة وقت الاختفاء، فيما جاء رده عليها حينها حسب قولها "مش عارف أقول لك إيه يا بنتي كان نفسي أقدر اعمل لك حاجة"، تمنت الشابة العشرينية لو صدق الجميع معها، وأعلموها من البداية بعدم مقدرتهم على المساعدة.
رؤية "عمر" هو الرمق الذي يعيد لـ"أمنية" طاقة المثابرة، رغم أنها لا تراه سوى ساعة تتقاسمها مع أسرته، من أجله تقطع نحو 15 ساعة مرتين بالشهر، لزيارته بسجن جمصة، تغادر القاهرة بالسابعة صباحا، مرتدية أفضل الثياب، للوصول بالثانية عشر ظهرا، وفي طابور الزيارات تعود الشابة لطبيعتها الخجول، لا تتحدث لأحد، فقط اعتادت مؤخرا أن تبتسم، بينما تنتظر حتى الثالثة عصر أو أكثر، وحين لقاء الحبيب.
بساحة الزيارة، بين صفوف المقاعد الخشبية، المليئة بالمساجين والوافدين إليهم، يأخذ "عمر" بيد "أمنية"، يظلا يجوبا المكان، ينقطعا عن العالم للحظات، يتحدثا، يتهامسا، فيما تلاحقهم نظرات المتواجدين باستغراب، يضحكا رغم ما تحمله التفاصيل من همّ، باسما يخبرها عن تحطم الساعة الغالية التي أهدته إياها، تجيبه ألا يشعر بالضيق، فينفرج ثغره بإعلامها السبب "كسروها على إيدي ولأنها بنت ناس فضلوا يضربوا لغاية ما إيدي بقت قد البرتقانة".
تكره "أمنية" السجن، ومعاناة يوم الزيارة، لكنها قبل ثلاثة أيام منها طيلة سبعة شهور، تظل تتنقل بين المحال والمكتبات، لجلب ما يريده شريك حياتها، من كتب وما يشتيه من الشكولاتة وحلوى الخطمي -مارشملو، يعلم "عمر" أن طلب مثل تلك الأشياء من أسرته، ضرب من الجنون، لذلك يخبر زوجته عبر الخطابات بما يريد، فيما تردد هي بضحكات باكية "هو في إرهابي زي ما بيقولوا وياكل مارشملو".
لم تنقطع "أمنية" عن زيارة "عمر" إلا قدرا في تلك المرة في 9 يناير الماضي، والتي عادت بها والدة زوجها بنبأ سيء جديد، باحتجاز الأب، وسجنه لمدة 15 يوم، ذلك الشهر، الذي مُنعت الزيارة، ومعها ساءت الحالة النفسية للشابة، التي يقتلها الإحساس بالعجز يوما تلو الآخر، حتى جاء اعتصام نقابة الصحفيين من أجل أبنائها المسجونين، والوقفة الاحتجاجية المقامة، فضلا عن تشجيع خالد البلشي وكيل نقابة الصحفيين، فكان دافعا لها لتنفيذ فكرة ارتداءها فستان الزفاف، التي راودتها كثيرا قبل ذلك اليوم.
في الثاني من مارس الجاري، تزينت "أمنية" في أبهى هيئتها، سألها أباها متعجبا عن سبب ذلك، لتجيبه "رايحة وقفة عشان عمر"، بيأس دفين يحاول إثنائها، فتخبره أن هذا ما بيدها، وتذهب إلى منزل شقيقتها، وتجلب فستان زفافها، حيث احتفظ به والدها بعيدا عن يديها، محاولة للتخفيف عن نفستيها، التي تسوء برؤيته، وبموقع عملها وزوجها في الدقي، تعمدت ارتدائه والخروج به، علها تعيد الخاذلين لرشدهم، فينضموا إليها.
ردود فعل كثيرة تلقتها "أمنية" بعد حدث "فستان الفرح"، تحقق ما أرادت، عاد الحديث عن "عمر" وأخوته، لمست هذا من الصفحة التضامنية على فيسبوك، التي زاد عدد متابعيها بمقدار ألف شخص في هذا اليوم، وللمرة الأولى يدخل السرور لقلب الزوجة "حسيت أني أخيرا عرفت أعمل حاجة لعمر"، وتأكد شعورها، حين أخبرته بالزيارة التالية للوقفة بما حدث، فأبصرت دموعه، وارتجاف مشاعره باحتضانه لها تقديرا لما فعلت.
"مما لا شك فيه أبدا أنه ما اجتمع الحب والفساد في قلب رجل واحد، وإني أشهد الله وإياكم والحاضرين أن هذه المرأة الجالسة أمامكم "زوجتي المصون" ما تركت موضع شبر أو قطرة دم أو صمام أو وريد أو شريان في القلب إلا وقد كتبت عليه اسمها، فصار الجسد وما حوى ملكا لها، واحتلت عروشه وأزقته وحواريه بحبها، فما عاد في قلبي مكان غير الحب أعطيه، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه" جزء من مرافعة "عمر" عن نفسه لأول مرة أمام محكمة المنصورة، في التاسع من يوليو 2015، لفظها بلسان عربي فصيح، لم يجد أفضل من حديثه عن "أمنية" ليدلل به عن براءته، كما لم تبخل هي بحفظه في نفسها، سرا وعلانية، والتمسك بـ"الأمل الحذر" كما يخبرها، من أجل يوم يخرج فيه عن تلك القضبان، وينفذا حلمهما بالزفاف، والسفر خارج البلاد.
فيديو قد يعجبك: