إعلان

بالفيديو والصور.. "محمود مصطفى".. ابن الأبنودي "اللي مخلفهوش"

05:46 م الأحد 26 أبريل 2015

ابن الأبنودي

كتب - محمد مهدي:
تصوير - علاء القصاص:

بخطى متأنية، تحرك الشاعر "عبدالرحمن الأبنودي" في قرية "الضبعية" بالإسماعيلية في عام 1986، تبحث عيناه بين "الغيطان" عن فتى من أبناء القرية يَكبُر بين يديه، يُعلمه مما أوتي من العِلم، يأتمنه على منزله الكبير، لا يخاف منه على أسرته، يراعي أرضه، ويُصبح رفيقه في ليالي الوحدة، لم يجد من يلفت انتباهه، غير أنه في طريق العودة تعثر في شاب بمقتبل العمر، يُعامل الأرض كأنها أمه، يهتم بها دون كلل أو ملل، يتصبب العرق من جبينه من شدة التعب فيما لا تفارق وجهه ابتسامة وديعة، سأل "الأبنودي" عنه، عرف أنه "محمود" 15 عامًا، ابن الحاج "محمد مصطفى"، حاصل على دبلوم زراعة ويعمل مع والده في الأرض، لم ينتظر كثيرًا وطلب مقابلة الأب "قالي أنا عايز محمود في الفيلا يقعد معايا.. قَبلت طلبه لإننا كنا نسمع عنه كل خير" ردد الكلمات الرجل السبعيني كأنه قالها بالأمس.

(____-1)

في أيام العمل الأولى كان دور "محمود" هو حراسة المنزل، لا يقترب من الأستاذ لكن الأخير يراقبه جيدا حتى يطمئن قلبه لاختياره "كنت بلاقي فلوس في المطبخ أو العربية أو مرمية في أي مكان.. كنت أجري عليه وأبلغه"، يقولها الفتى الذي صار اليوم رجلا أربعينيا، لا يعرف هل كان عثوره على المال محض صدفة أم أنها اختبارات من "الأبنودي"، لم يهتم كثيرا، لكنه نجح على أي حال في اكتساب ثقته مع الوقت والتجارب.

يتذكر "محمود" نصيحة والده له بأن يبتعد عن أهل البيت قدر الإمكان حتى لا يُغضب هذا الشاعر الكبير، "لما كان أهل بيته يبقوا في مكان أروح مكان تاني"، لكنه فوجئ باستغراب "الخال"، قال لي "بتختفي ليه فجأة.. اشتغل يا ابني براحتك متخافش أنا مطمنلك"، زاد هذا من خيوط الوداد والوصال بينه والأستاذ، تخلى قليلا عن حذره في الالتزام بدوره في حراسة المنزل فقط، واندفع إلى الأرض الزراعية التي يملكها "الأبنودي"، عاد إلى متعته السابقة، الاعتناء بالأرض، ومرافقة المحصول منذ لحظة الوجود حتى فترة الحصاد.

يوما بعد يوم كبرت قصيدة الثقة بينهما، الكلمات الطيبة تنسجها، والتجارب الحياتية على مدار السنوات تنظمها، والجلسات اليومية الممتلئة بالحكي وتمرير الخِبرة من الكبير، وحسن استماع وفِهم الصغير تضع أفضل العناوين لها "كان بيعلمني كل شيء.. من الطبيخ لحد المعاملة الطيبة للناس.. وباله كان طويل معايا"، حتى أصبح "محمود" بعد سنوات ليست بالقليلة قصيدة مهمة في حياة الشاعر، يُحبها، يعتني بها، ويكتبها بحروف من نور "فاكر إني بقيت أقرب للأستاذ لما رجع من رحلة العلاج في باريس".

(____-2)

أحَب "محمود" الخال، لا يفارقه إلا قليلا، يهتم بكل ما يتعلق به، جدول يومه، أرضه، أسرته، طعامه، موعد الدواء، أية أعمال إدارية، ولا يذيع له سرا " زي ما تقول كدا..القلوب عشقت في بعضها" جعله هذا لا يتواجد في منزل العائلة كثيرا، ولم يكن والده يقف في طريقه أو يعنفه رغم الغياب، يقول الأب " لما يكون ابني لاقي نفسه في مكان ما.. مينفعش أقف قصاده.. وأهم حاجة إنه مستريح نفسيا"، لكنه لا ينسى تلك الشائعات التي دارت في القرية عن حصول ابنه على أموال طائلة من منزل "الأبنودي" وصرفها على آل بيته، وقتها انطلق غاضبا إلى الشاعر الكبير، أخبره بما يُشاع وأنه لا يقبل الأمر وضرورة إنهاء عمل "محمود" معه، وكان رد الأستاذ "محمود دا ابني.. محمود دا أنا".

رغم قُرب المسافات الإنسانية مع الأستاذ، إلا أن لحظات تجليه وهبوط الوحي بالشِعر تجعله ينفصل عن ما حوله، ينشغل بالكلمات، يختلي بنفسه، يدون الفكرة أو الكلمة أو الشطر، يجلس لساعات في ملكوت آخر ناسيا ماذا كان يدور بينهما، هذا كان مثار تعجب "محمود" لكن "الأبنودي" فسر له الأمر "كان يقولي الشعر ضيف. وضيف خفيف كمان، لو حد أزعجه يطير"، ولم يكن يتلو ما كتبه من أشعار على ابنه "اللي مخلفهوش" كما يرى الناس في "الضبعية" إلا بعد نشرها.

بقدر إخلاص "محمود" لـ "الخال"، وجده يحنو عليه في الشدة، يقف بجواره، فمايزال يتذكر ما وقع له منذ عام ونصف عندما أصيب بمشاكل صحية في القلب، وإجراءه عملية "قسطرة" ثم عملية قلب مفتوح في أحد المستشفيات الخاصة، تكفل بهما الشاعر الراحل "مخلنيش محتاج حاجة.. هو السبب بعد ربنا أني لسه حي لحد دلوقتي"، وعندما تعرض لحادث تصادم أثناء قضاء بعض أمور الأستاذ منذ 9 أشهر "جالي المستشفى رغم إنه كان تعبان، وصى عليا، والدنيا اتقلبت بسبب اهتمامه" كلمات ذكرها الرجل بامتنان.

في الفترة الأخيرة زاد حديث "الأبنودي" عن الموت لرفيقه "محمود"، قالها صراحة "دا أخر عيد ميلاد ليا"، كان يعلم أن النهاية اقتربت، يقولها كأنه تلقى الإشارة "كنت دايما بحس إن بينه وبين ربنا وداد خفي"، غير أنه لم يكن يخاف الأمر "الموت بيجي في أوانه"، فقط ما كان يزعجه أحيانًا، تلك الشائعات التي تصدر من حين إلى آخر بموته "قالي عايزني لما أموت محدش يمشي واريا لأن خبر وراء خبر الناس مش هتصدق لو مت ومحدش هيجي جنازتي"، وقبل أيام من رحيله أوصاه أن يقف على غُسله وأن يكون العزاء أمام منزله في الضبعية.

(____-3)

اللقاء الأخير، بعدما تدهورت صحة "الخال" طلب الأطباء سرعة نقله إلى القاهرة للعلاج، ساعده في ارتداء ملابسه، تحرك معه إلى السيارة، وقبل أن يمضي في طريق اللاعودة نظر إليه من وراء النافذة مبتسما وقال بصوت غير عال "مع السلامة يا حودة"، لا ينسى "محمود" تلك اللحظة، لا تفارق خياله، يحتفظ بها في ذاكرته، كلما افتقد الأستاذ استعادها مترحما عليه وعلى أيامه التي لن يأتِ مثلها مرة ثانية " كأن حد مشاركني في حمل جبل.. وفجأة سبني لوحدني بكل الحِمل".

ليلة بعد ليلة يتصل "محمود" بزوجة الأستاذ "مدام نهال"، للسماح له بالقدوم إلى القاهرة لزيارة الأستاذ، لكنها تطلب منه الانتظار خوفا على صحته وطول المسافة بين المحافظتين، لكنه ليلة الأربعاء أصيب بأرق لا يعرف سببا له حتى جائه النوم قُرب الفجر، زاره "الخال" في المنام "لقيته قاعد قدام الدار وبيقولي غيرلي عشان أنا ماشي، قولتله ماشي فين يا أستاذ، قالي أنا ماشي وجاي على طول. دخلت الأوضة لقيته قاعد لوحده، قالي يا ابني أنت أتاخرت عليا ليه أنا عايزك.. يلا تعالالي" استيقظ مفزوعا، اتصل من جديد بالمدام، حتى أتته الموافقة، فانطلق إلى والده الروحي.

في الطريق إلى القاهرة، شعر "محمود" أن حركة السيارة بطيئة رغم أن السائق يسير على سرعة كبيرة"كنت مستعجل.. عايز ألحقه"، وما أن وصل إلى المستشفى التي يرقد فيها الشاعر الكبير حتى انطلق مهرولًا صوب غرفة "الأبنودي" رغم أن حالته الصحية لا تسمح وقدمه تتحرك بصعوبة شديدة "أول ما وصلت وحطيت قدمي في الأوضة.. السر الإلهي طِلع"، لم يتمالك نفسه، لم يستطع، الفراق، نزيف الآلام لا يمكن إيقافه، شعور الفَقد يضغط على صدره يجعله غير قادرا على التنفس، فيما تبكي عيناه بلا هوادة، مات الأستاذ، الوالد والمعلم، الأخ الأكبر والصديق، واهب الحِكمة، وخُلاصة التجربة، وسر الأشياء، كأنه تعرى فجأة في ليلة شديدة البرد "لحظة متتوصفش.. كنت بخنق نفسي عشان أبطل عياط وأمنع صوتي".

نفذ "محمود" الجزء الأول من وصية الأستاذ، أشرف على عملية الغُسل في منزله بالضبعية، ونقل الجزء الثاني إلى أسرته عن مكان العزاء حسب رغبته، وعاد في ليلة الموت إلى منزله، جلس وحيدا، يفكر في التجربة، مرت في لمح البصر، كومضة، انتهت مسيرته مع "الأبنودي" لكن سيرته مستمرة بما تركه من محبة وخير وسمعة طيبة، وطريقه مع عائلته مستمر "عمري ما أفكر أنقطع عنهم أنا معاهم لحد ما يقولولي أنت برأه" يحفظ معروف "الخال" فلا يتخلى عن زوجته وبناته إن احتاجوا إليه، ويسير على خطى الراحل، بنور ما تركه داخله، وبدعائه الأخير له "ربنا يصلح حالك يا ابني".

 

 

لمشاهدة الفيديو ... اضغط هنا

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان