مراسل حربي بدرجة رسام.. الغيطاني في حديث شعبان يوسف (حوار)
كتبت- رنا الجميعي:
عِقد فصل بين جمال الغيطاني الرسام والمحرر العسكري، غير أن الأديب كان مزجًا بينهما، استخدم الغيطاني ثقافة الكاتب في موضوعاته الصحفية، بينما علمته الحياة العسكرية لأعوام الانضباط، ما زخر الحياة الثقافية بإنتاج عظيم حتى آخر دفعة هواء عبّ بها الغيطاني صدره قبل الغيبوبة التي لم يفق منها.
يسرد المثقف شعبان يوسف، في حوار مع مصراوي، عن الغيطاني المحرر العسكري، يحكي عن بداياته في عالم الجرائد، ابتعاده عن المدينة، قُربه من الجبهة أكثر، والإبداع الذي نجم عن تلك الأعوام متمثلة في كتب يناقش فيها فلسفة الحرب، وعقيدة الجنود، كذلك في قصص وأفلام.
بدأت صلة الغيطاني بعالم الصحافة فعليًا بعدما أصدر مجموعته "أوراق شاب عمره ألف عام"، حيث انبهر بها آنذاك، محمود أمين العالم، الذي شغل في الستينيات منصب رئاسة مجلس إدارة مؤسسة أخبار اليوم، أشار إليه العالم بالاشتغال بالصحافة، لم يعترض الأديب الذي كان يعمل رساما للسجاد الشرقي، ومنذ ذلك الوقت، تحديدًا عام 1969، لم تنقطع الأواصر بين الغيطاني والجرائد، يقول يوسف إن تلك الفترة كانت المؤسسات الصحفية تميل لاشتغال الأدباء والمثقفين بها، "علاء الديب في صباح الخير، صلاح حافظ في روز اليوسف، محمود أمين في أخبار اليوم، خيري شلبي، مكنش فيه ف الوقت دا مؤهلات وكان مسموح يشتغلو محررين".
خدش في جبهة النظام
قبل ولوج الغيطاني لمعترك الصحافة الفعلي، وكتاباته على الجبهة، نشر مقالات له في صحف لبنانية "زي مجلة الحرية ببيروت، والمحرر"، وبعدما بدأ عمله كمحرر عسكري، كتب مقال نُشر له في مجلة الطليعة القاهرية "كان بيبدي سعادته الشديدة بعمله في الصحافة، وإنه محرر عسكري لأن المنصب دا أبعده عن المدينة والكوارث اللي بتحصل في الصحافة".
اعتُقل الغيطاني في أكتوبر عام 1966 وخرج في مارس1967، بتهمة الانضمام لتنظيم ماركسي سري، غير أن الكاتب اعتبر تلك الفترة مجرد نتوء في فترة حطام عبدالناصر، كما يذكر يوسف، مثلما فعل ذلك الشاعر عبدالرحمن الأبنودي رفيق الغيطاني في المعتقل، حيث استدعاه الإذاعي وجدي الحكيم، بعد الهزيمة لتأليف أغاني وطنية "زي احلف بسماها وترابها، وأغنية اضرب".
لكن جمال اتصف بحالة من النزوع الوطني شديد، كما كان أبناء جيله، فلم تؤثر فترة الاعتقال فيه، فصار قلم الصحافة على الجبهة إبان حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر، فيما يصف يوسف الغيطاني أنه "محرر عسكري بامتياز، جمال مكنش بينقل الأحداث بشكل عابر، ومش مجرد صحفي لكن كان مثقف".
"لكن هنا في بورسعيد، هذه المدينة الجميلة الرقيقة، العذبة، النشيد الحلو المجسد عند مدخل القناة الشمالي، المطلة على البحر المتوسط، هنا تتجسد الحرب في صورة مغايرة، في المدينة كلها لا يوجد منزل واحد أصيب بشظية من قنبلة معادية فيما عدا فجوة في بناء الفندق الجديد، الشوارع نظيفة جدا، غير البحر يغسل الجدران، يكسبها بريقًا حلوًا رائعًا كالشروق، ومع ذلك تتجسد الحرب في أبشع الصور وأقساها".. أجزاء من كتابات الأديب الراحل وقت الحرب.
لم يكن الغيطاني محرر عسكري عادي، فثقافته الموسوعية أصقلته، وتجربة القراءة عنده منفردة، حيث بدأت قراءاته منذ أن كان في العاشرة من عُمره "درس في مدرسة الكتخدا الإعدادية، واتعرف على كشك كتب، واستطاع يقرا التراث"، فصاحب دفاتر التدوين ليس مجرد كاتب روائي وقصصي فحسب، بل مؤرخ يعلم ثنايا التاريخ كما في "ملامح القاهرة في ألف سنة"، كذلك امتلأت جعبته بدراية تامة بالمناخ السياسي الموجود والخريطة السياسية العالمية، ولم يجهل عدوه، يُكمل يوسف أنه لمّا اشتغل محرر عسكري؛ قرأ تاريخ مصر وإسرائيل، والخلاف الجوهري بين العدوين، كانت تلك العوامل التي ساعدت الغيطاني على الكتابة عن الحرب.
"إن مفهوم البطولة هنا يُعيد الإنسان المصري من جديد".. كلمات خطّها الغيطاني في إحدى رسائله من الجبهة، نُشرت بتاريخ 8-11-1973، كتب الغيطاني موضوعاته الصحفية مزج بين المعلومات والذكريات- كما يقول يوسف، كمحرر عسكري يسجل ذكرياته على الجبهة، ويكتب عن المعلومات المسموح له فقط بسردها "كثيرون من القادة أود لو تحدثت عنهم واحدًا واحدًا، لكنني أكتب وظروف صراعنا لم تنته بعد"، بالفعل كلما أتيحت للغيطاني معلومات يُمكن التصريح بها، على صفحات الأخبار كشف الستار عن سر الغواصة "دكار" بعد اختفائها بعامين، في تحقيق بمطلع يناير 1970، سرد فيه كيف أغرقت البحرية المصرية الغواصة، كانت الفلسفة أيضًا مزج في كتابته حيث يشرح أن الإنسان العادي لا يقدر على حمل ما يستطيع عليه الجندي من أسلحة متعددة، كما كتب عن بطولات المقاتلين، بلغة عذبة كان الإنسان المُفرد صوته أعلى من دوائر الأسلحة.
"قبل أن نواصل الحديث عن سير المعارك، لنتوقف قليلًا ونتأمل أحدهم، إنه مصري الملامح، شاب لم يتجاوز الثالثة والعشرين، من مواليد 1950، واحد من آلاف ينتمون إلى جيل يقدم أغلى التضحيات، هل كان يخطر ببال أحد أن هذا الشاب، المتدفق حيوية، يستطيع يومًا أن يصد هجوم مدرع للعدو على امتداد ثلاثة أيام مع زملائه، هنا نرى الرجال الذين قاتلوا مع أبطالنا رجالًا مصريين هادئي الملامح، نتعامل مع أمثالهم يوميًا، بل إن بعضهم أثناء الحديث يبدو خجولًا، لا يريد أن يتكلم عن نفسه".. يواصل الغيطاني نقل البطولات باقتدار.
في موضوعات الغيطاني استطاع القراء تلمس لغة الانتصار أكثر مع موضوعات في حرب أكتوبر، مما كانت بحرب الاستنزاف-يقول يوسف، فيما شبّه كتابات الغيطاني بكتابات الجندي أحمد حجي- الصادرة عن دار كرمة العام الماضي، الطبعة الأولى لها عام 1988- تحت اسم "مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس"، المذكرات التي تحكي قصص حجي لعامي 69 و70 على الجبهة، كانت كتابات حجي هي الأقرب للغيطاني إحساسا بالجنود، بعدد السبت الماضي من أخبار الأدب، خلال ملف حمل اسم "سلامًا"، نُشر موضوعين من تحقيقاته العسكرية، أحدهما كان بوقت حرب الاستنزاف وعنوانه "الحياة في مدن المواجهة"، بجانب وصف التفاصيل الذي يُجيده، حمل التحقيق صوت المقاتلين المصريين، بتعابير مختصرة حكي الغيطاني عنهم، لهم أسماؤهم، أشغالهم، وأعمارهم التي يعرفها من يقرأ، بسؤاله للمقاتل حامد عبد الحميد عن دوافعه للتطوع في قوات الدفاع الشعبي، قال: أمال هنجيب رجالة من برة تحارب لنا.
إبداع الغيطاني لم يقف على لون أدبي أو صحفي بعينه، حيث كانت لديه القدرة على تحويل كل ما يدور حوله إلى مخطوطات أدبية، لذا كانت الحرب مجالًا له لتحويلها لكتابات، بجانب الصحفية منها ألّف الغيطاني كتابين هما؛ "المصريون والحرب"، "حراس البوابة الشرقية".
كتاب "المصريون والحرب، من صدمة يونيو إلى يقظة أكتوبر" أنتجه الغيطاني عام 1974، يقول يوسف إن المحرر العسكري استثمر التربة التي يقف عليها، وتتبع الحرب من 69 حتى 73، فيما قامت فلسفة الكتاب على عدة أسئلة ناقشها الغيطاني؛ ماهية الحرب وأسبابها، هل للحرب جدوى، كما تحدث عن العقيدة عند الجندي المصري.
"لم يهاجر أهالي بورسعيد كلهم، عديد منهم بقوا، لم يفارقوا المدينة، تبدو الحياة واضحة في شارع الحميدي، هنا الحركة أكثر كثافة ونلمح العديد من متطوعي الدفاع الشعبي، ويتمثل واجبهم الأساسي في الدفاع عن الأهداف الحيوية داخل القطاع المدني، بالتنسيق التام مع القوات المسلحة".. عن المدينة الباسلة يحكي الغيطاني.
أما كتاب "حراس البوابة الشرقية" الذي أصدره بعام 1975، فكان عن دور الجيش العراقي في حرب أكتوبر، بمقدمة الكتاب يتحدث الغيطاني "تعلمت من تجربتي كمراسل حربي أن التفاصيل تضيع إن لم تدون، وفي الحرب تنزف دماء المقاتلين أثمن ما يجود به الإنسان، لكن كثير ما تبقى آلاف الأحداث الصغيرة والكبيرة مجهولة، وواجب الكاتب أن ينقب عما أداه أبناء وطنه وهذا ما حاولته أثناء متابعتي لقتال وبطولات المقاتل المصرى على جبهة قناة السويس منذ عام 1968 وحتى أكتوبر، ثم متابعتي للمقاتل السوري خلال حرب أكتوبر، وهذا الكتاب يقدم تلك المحاولة من أجل تتبع الدور الذي قدمه المقاتل العراقي في حرب أكتوبر ".
يقول يوسف إن الكتاب أخذ سُمعة سيئة لمهاجمته الأكراد فيها "هما فعلًا في بعض تحولاتهم كانوا معوق للوحدة العربية، وكانوا على علاقة أيضًا بإسرائيل"، يعتبر يوسف أن كتاب حراس البوابة هو دراسة عميقة وتاريخية وفلسفية، كما أنهما برأيه مرجعين مهمين في معرفة قدرة الجندي العربي على تحقيق النصر.
لم يكتف الغيطاني بكتابة هذين الكتابين فقط، لكنه أنتج أيضًا مجموعتين قصصيتين؛ هما "حكايات الغريب" و"أرض أرض"، حسب آراء المُعجبين بمجموعة "حكايات الغريب" على موقع "الجودريدز"، فكانت المجموعة لا تتحدث عن الحرب بمعناها الجامد، لكن المشاعر الإنسانية والتفاصيل التي يحياها المصري وقت الشدة، أما "أرض أرض" فكانت القصص تتحدث عن مُجنديْن على الجبهة.
مازال السلاح في يد الغيطاني
تأثر الغيطاني بفترته التي قضاها في المؤسسة العسكرية، لم تكن بالفترة القصيرة، حيث كان على الجبهة منذ عام 1969 حتى انتهاء حرب أكتوبر على الجبهتين المصرية والسورية، فيما نُشر لها حوار مع قائد سلاح الجو السوري، بتاريخ 25-11-73، بعنوان "قطعنا الذراع الطويلة لإسرائيل"، بعدها ذهب إلى شمال العراق عام 1975، في ذلك الوقت الذي كشف فيه عن دور الجيش العراقي في الحرب.
كذلك اتجه إلى لبنان عام 1980، فيما كانت الحرب الأهلية مندلعة، وذهب إلى الجبهة العراقية خلال الحرب مع إيران (عام 1980-1988)، يقول يوسف إن الغيطاني تأثر كثيرًا بالمؤسسة العسكرية، حيث تحلى بالانضباط الشديد، ظهر ذلك في مواعيده المحددة، كما ظهرت في كتاباته "بيعمل الأشياء بهندسة، جمال عنده بنيان خاص في الكتابة الصحفية، وبنيان في الكتابة الروائية"، وكان لانضباطه نتيجة هو الغزارة في الإنتاج، وبعضه غير منشور "زي ما الغيطاني عمل كتب عن نجيب محفوظ ومصطفى أمين وتوفيق الحكيم، كتب عن جلساته مع إحسان عبدالقدوس، نشرت في عشر حلقات لكن مطلعتش في كتاب".
ظل الغيطاني حاملًا للسلاح كما يذكر يوسف، وأعطته المؤسسة رتبة عسكرية لإخلاصه ووطنيته-لم يتذكر يوسف أي رُتبة بالتحديد، بإحدى رسائله على الجبهة، منشور بعدد 6-11-73، سرد فيها عن ست رسائل موجهة لقراء الأخبار، لم يحك فيها عن نفسه بأكثر ما اتسع حديثه لوجوه المقاتلين، يصف إبراهيم رفيقه في الحرب "إذا ما أتيح للشاعر الشعبي أن يحكي عن إبراهيم، أن ينظم الملاحم في أبطال مصر الذين ضحوا من أجلها خلال حرب التحرير، فسوف تسمعون عن أبطال جدد أمثال أبو زيد الهلالي، وعنترة، والظاهر بيبرس وسيف بن ذي يزن ومار جرجس، ويومًا ما سأحكي لكم عنهم أكثر".
فيديو قد يعجبك: