عمره 9 سنوات.. أصغر سياسي في جامعة القاهرة يروي تفاصيل ''الاشتباكات الدامية''
كتب- أحمد الليثي ودعاء الفولي:
أحد أعلام الجامعة، يعرفه الكبير والصغير، يشارك الطلاب امتحاناتهم بـ''الدعاء'' على أبواب الحرم، واشتباكاتهم الدامية بـ''استنشاق الغاز'' والجري من طلقات ''الرصاص''.. رب الأسرة، رغم سنه الذي لم يتخط العاشرة بعد، لوالد مريض وسيدة لا تعلم من أمور الدنيا سوى رعاية المنزل، وستة أخوة ''5 ولاد وبنت''، يعيش الصغير بمنطقة صفط اللبن المجاورة لجامعة القاهرة، بوجه قمحاوي تملؤه الندوب يسير جسورا، يربط رداءه حول وسطه، متباهيا بعمله رغم نظرات العامة له، يبيع المناديل تارة، ويوزع أدعية وآيات قرآنية مرات، يعلم عن دروب السياسة كخبير، عايش كافة الأحداث؛ بل صار جزءا منها.
أمام كلية الهندسة، يمر الصغير يومياً، تتسمر عيناه البُنيتان على مبناها القديم، يجول بخاطره في تفاصيل الطلاب الدالفين لها، يحملون الأدوات الدراسية، يُفكر في مدى روعة عالمها الداخلي، يحلم أن يُصبح مثلهم، الطريق طويل إليها، لكنه لن يفقد صبره ''بحب رسومات المباني قوي''، تلك الكلمات تُفسر سبب رغبته في دخولها، لا يعلم عنها أكثر من ذلك، تناوشه الأحلام، لا تدعه حتى تتهيج أنفه بفعل قنبلة الغاز الأولى، يفيق، لحظات كي يستوعب أن الميعاد الأسبوعي للاشتباكات في محيط الجامعة قد جاء، يهرع مختبئًا، بينما تخرج مظاهرة من الكلية التي يتمنى دخولها يومًا، يستنكر ذلك رغم عشقه لها ''انا لو طالب في الجامعة هبقى عايز آجي أتعلم وبس''، يحنو قلبه الذي أنهكه الجري على حالها، يعاني انكسار عصا الرزق مع كل اشتباك يحدث، لكن ذلك لا يضاهيه فزعه عندما يستمع مُجبرًا لأصوات الرصاص خارج الحرم.
عادات ثابتة لا يغيرها، مع دقات السادسة صباحًا لا يذهب بالضرورة ''أشرف'' إلى مدرسته، غير أنه يتجه صوب ميدان الحسين ليجد نفسه بين يدي ''أم عبده''، تقرضه مائة ورقة تحوي قرآنًا لا تزيد مساحة الواحدة منها عن كف اليد. في الطريق يقبض على الأوراق، يحاوطها جيدًا كصيد ثمين، في لمح البصر ينتقل الصبي الصغير من جوار حفيد الرسول إلى مستقره الدائم، الباب الرئيسي لجامعة القاهرة.
يُبسمل ويقرأ المعوذتين، خوفًا من عين ''أم أسامة'' إحدى البائعات في محيط الجامعة، تناظره دوما، يخشاها كخطر داهم، ''عينها سودا'' ينطقها ببطء، يرفع كفه الأيمن لتعانق أصابعه الخمسة عنان السماء، في محاولة لدرأ الحسد، تتابعه ''أم أسامة'' بنهم، تطلق صوتها المدوي من بعيد ''يا واد يا أشرف كفاية ده أنت كملت الـ100 جنيه''، يرمقها بسأم قبل الدخول معها في شجار طفولي ''تعالي نشوف اللي في جيبي واللي في شنطتك''، يشيح بوجهه عنها، يتمتم بعبارات غير مفهومة تخرج منها كلمات ''أم اسامة دي أحسن من موظفة ومتثبتة كمان''، يضج رفاقه بالضحك، قبل أن يداوم عمله.
''أصل أنا رزل حبتين''، بوجه باسم يقولها مفسرًا رواجه في سوق الطلاب، ''خد يا عسل.. يارب تنجحي.. إلهي تزوري النبي''، يدلل بها على بضاعته، يناغش البنات، يحبونه، تُلقي عليه إحدى الطالبات التحية، تُذكره بميعاد مواظبته على الدراسة ''متنساش تيجي يا أشرف''، تربط على يديه كشقيقته الكبرى، قادمة هي من مصر الجديدة، غير أنها تعرف تفاصيله بالكامل، فيما تتغير معاملة الشباب من الذكور مع ''أشرف''، يتعاطون مع وجوده كشخص بالغ، يصادقونه، يُعطيه أحدهم سيجارة؛ فيرفض، يدفعه آخرون بعيدًا عن طريقهم بلهجة جافة قائلين ''الله يسهل لك''، غير أنه لا يبالي؛ فأحباؤه كثر في جنبات المكان ''والرزق على الله'' كما يقول.
كان اليوم ''أربعاء''، قبيل العصر حميت الاشتباكات، الرصاص مصبوب يخرج من فوهات البنادق، يصم الآذان، يضرب الأجساد، تسيل دماؤها، يسقط قتيل، اثنين، يتزايد العدد، والغاز هناك، لا يبرح مكانه إلا أن يزكم الأنوف كلها، و''أشرف'' بين ذلك، يغطي بيديه الصغيرتين رأسه ذات الشعر الناعم، يتحرك بلا انتظام، يبحث عن مهرب؛ فلا يجد، في جيب بنطاله توجد الأوراق التي يأتي بها صباحًا ليبيعها، يتمنى لو أنه لم يحضر، يُمسكه أحدهم بعنف من رداءه المُخطط منزوع الأكمام، يرفعه، لا يعلم أين يأخذه؛ ليجد نفسه مُختبئًا خلف سور حديقة صغير لا يجاوز طوله، انكفأ على وجهه، وقف الصغير مع حاميه، ترتجف عيناه، ترتعد مفاصله، يقفز قلبه من ضلوعه هلعًا، يتذكر والدته المُسنة ووالده الذي لا يبرح المنزل، يُخيل له بأنه راحل لا محالة، تنزف أنفه دموعًا سقطت من جفونه، فواصلت السير، الغاز يُضرب بعنف، الدولة لا ترحم من يُهدد أمنها، وأصوات الطلاب لا تزال تطالب بعودة رئيسهم المعزول.
ينظر الصغير قبل كلية الهندسة، حلمه المُهدد بالضياع، تغلبه الدموع رغمًا عنه، يستشعر أن مُقلة عينيه تُقتلع، يتشبث ''أشرف'' بيد رفيقه الغريب، يرفع الغريب ذراعه، في مشهد أشبه بنهاية ''محمد الدرة''، القبة هناك لكنها ليست لأقصى ينادي بالحرية، يعلو صوت الرجل محاولًا تنبيه الأمن أن ثمة صغير يقبع خلف السور معه، و''أشرف'' صامت.. يمر اليوم بسلام، لكنه يترك في نفس فتى التاسعة غُصة، تخرج عندما يسأله أحدهم عما حدث ''الشرطة مش كويسة عشان بتموت في الناس''، لا يُعمم الحالة على الجميع، شهد موقفًا ساعد فيه أحد رجال الشرطة سيدة مُسنة وقت الضرب ''قالت للظابط طلعلي البخاخة من الشنطة، فأخدها وأسعفها''.
مُجبرًا اضطرته أحوال البلد معرفة الجديد في عالم السياسة، يضع كل شخصياتها في مكانة بعقله، يُقيمهم، يُعلي شأن بعضهم أو العكس، له رأيه الخاص ''حسني مبارك خد فلوس كتيرة هو ومراته''، لا يتذكر كثيرًا عن ثورة يناير 2011، لكنه يعرف أن تظاهرات 30 يونيو خرجت لإسقاط الرئيس السابق ''محمد مرسي''، ''منه لله خرب البلد''، يتبع تلك الجملة بسبب يراه وجيهًا ''كان هيبيع سيناء''.
لا زال تحليله لما يحدث مُستمر، رغم ذلك لا يتابع القنوات التليفزيونية إلا قليلًا ''بس بشوف ريهام سعيد''، يتحدث بالتفصيل عن يوم سقوط ابن الدكتور جابر نصار مصابا ''كان يوم لما ابن وزير الجامعة اتضرب بالرصاص''، عندما يسمع طلاب الجامعة يهتفون ''هنجيب السيسي بتاعكوا'' يتمتم في نفسه ''السيسي بيحمي بلدنا''، على حد قوله، قبل أن يضحك بصوت مجلجل حين يحكي عن سيره في إحدى تظاهرات الإخوان بالهرم ''خوفت لأحسن أنضرب ولا حاجة وقعدت أقول زيهم.. رابعة''، يعرف أن صوته لا قيمة له في الانتخابات القادمة لكنه يصر على المشاركة بأسلوبه ''هدخل مع أي ست اللجنة زي ابنها.. عايز أحط صباعي في الحبر.. بيبقى شكله حلو أوي''.
على دكة مُتهالكة كواحد ضمن ''37 ولد و48 بنت'' يجلس ''أشرف'' لجانبه صديقيه، ليسا من بائعي المناديل، غير أنهم رفاق الفصل بمدرسة ''هالة زايد'' الابتدائية القابعة بمنطقة صفط اللبن، يخلع الطفل رداء العمل، يتحول لتلميذ، ينظر للمدرس الواقف أمامه، يشرح على السبورة، لا يكره المدرسة ''نفسي أروح اتعلم كل يوم بس الظروف هنعمل أيه''، يتمنى لو تبدل به الحال ''بحلم أروح المدرسة بالأتوبيس زي ولاد الذوات''، يغوص في حلمه متخيلا لو أتاحت الظروف له دفع 140 جنيها ثمن المجموعة المدرسية دون تقسيط، فيما يقول بعيون لامعة ''لو الواحد يدخل مدرسة خاصة من اللي بيدفعولها آلافات في السنة.. ده يبقى موضوع عظيم''، قبل أن ينزعه الواقع عن خيالاته؛ فيتذكر أن وجوده في رواق المدرسة لا يتخطى يومين أسبوعيا ''لازم أنزل أبيع عشان مصاريف البيت''.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: