إعلان

التهجير.. ''بوصلة'' الاغتراب (بروفايل)

04:19 م الأربعاء 29 أكتوبر 2014

التهجير

كتبت-دعاء الفولي:

أينما بدأ السكان في رفع أشيائهم للرحيل مُرغمين، يظهر شبحه؛ يراقبهم متألما رغم علمه أن الأمر بات ضروريا، يُعرّفه الناس بكلمة، تنخلع قلوب بعضهم بسماعها؛ تهجير، هكذا يقولون عنه، تلك الكلمة معناها دائما يحمل ألم وإن تغيرت المصطلحات؛ إبعاد، إقصاء، ترحيل، كل المعاني تؤدي إلى الاغتراب، تختلف الشخصيات والزمن والأسباب ويبقى وحش التهجير يقظا يتذكر حكايات ضحاياه.

يفصل بين حزن كل منهم سنوات؛ أولهم خرج بعد عام 1956 من منزله بإحدى مدن القناة-السويس والإسماعيلية وبورسعيد-، أخبروه أن الدولة تحارب العدو، حدثوه عن التضحيات، لم يمانع بذل ما لديه، غير أن تساؤل ''هنروح فين؟'' ظل يضغط على عقله، تربت يداه على زوجته التي تحمل الابن أو الابنة، البديل كان النزوح على القاهرة والدلتا للعمل، جاءت سنوات الحرب وانتهت وهو لا يعلم هل يظل بيته منتظرا العودة، أم يُدك تحت عنفوان الحرب المتقد، لم يكن النصر قريب كما يعتقد، حرب 1967 زادت المأساة، من بقي في المدن عقب العدوان لم يمكث بعد النكسة، إلا بعض الرجال. انتهت الحرب وعاد الغريب لبلده مرة أخرى بعدالانتصار، تغيّر شكل المدينة والمنزل، تركت العودة في نفسه أثرا جيدا، لكنه لازال يفتقد سلام المدينة قبل أن تولد الحرب.

الغريب الذي عاش بعيدا عن القناة لسنوات أفضل من آخرين؛ فذلك الرجل الأسمر ذو الجلباب الأبيض لم يعد إلى بيته إلى الآن،  العام 1963، السد العالي يدخل مرحلة البناء، ترغب الدولة في إتمام كل شيء سريعا، لذا تم نقل أهل النوبة الذين يعيشون على ضفتي النيل؛ بدءا من شمال الشلال الأول وحتى جنوب الشلال الثاني بامتداد طولي يصل إلى 350 كيلومترا، وحددت الحكومة لهم أراضي بديلة في هضبة كوم أمبو شمال أسوان، مكان أصم لا يُشبه الوادي الذي عاشوا به حيواتهم؛ كانوا ثلاث قبائل؛ ''الفاديجة''، ''الكنوز'' و''عرب النوبة''، الرجل الأسمر لم يشكُ كما فعل أهله الذي هُجروا معه، فقط استسمسك بحلم البيوت الجديدة، سرعان ما خفُتت ابتسامته، البيوت غير مكتملة الإنشاء، الماء ليس موجودا، كل شيء يبدو باهتا، مات الرجل النوبي مع أول خطوة له في المنزل الجديد، حزنا على القديم، لكنه ورّث من بعده انتظار العودة للأراضي المغمورة بالماء.

الشيخوخة تُخيم على أنفس المُهجرين، تموت أرواحهم قبل الأجساد، والتهجير لا يبلى، كثعلب يتجهز للافتراس ينظر لتلك السيدة ذات الملامح المستسلمة للأمر الواقع، تحتضن ما بقي من تفاصيل بيتها؛ جلباب أحضره لها الزوج، سلسلة ذهبية عانى الأبناء كي يهدوها إياها بعيد الأم، زجاجة عطر صغيرة ليست مرتفعة الثمن، هذه المرة تعلق الأمر بمشادات بين بعض مسلمي قنا وأقباطها عام 2006، على إثرها تم ترحيل 15 أسرة مسيحية بقرية حجازة، مركز قوص بمحافظة قنا –تبعا لتقارير حقوقية-، ذلك العدد ليس كبيرا نسبة لأحداث أخرى، لكنه يحمل وبال العالم على الضحايا، لا يعرف أحد إذا كانت السيدة قد عادت للمنزل أم لا، لكن التهجير يربض على رأس الفتنة، يُشعل نارها إذا لزم الأمر؛ ليتحقق مراده، والدولة لا تأبه، تُقدم له أحلام المُرحلين على طبق من ذهب دون إيجاد بدائل آدمية.

طفلة تُسمى ''سيناء''، تقطن برفح، حكايتها لا تحمل كمدا أقل من قصص الذين سبقوها، أخبرها والدها بلطف منذ يومين أنهم سيرحلون، طلب منها ترك الأشياء التي يمكنها الاستغناء عنها، الجرافات ذات دوي مُزعج نسبة لأذنيها الصغيرتين، تكتم الصوت بيديها فيتسرب صداه، رأت أبيها يتحدث إلى أحد ضباط القوات المسلحة، حيث طلبوا منه إخلاء المكان ضمن 62 منزل على الشريط الحدودي برفع المصرية، كي تستطيع القوات المصرية محاربة الإرهاب المتفشي بسيناء، سمعت عن مبلغ الـ300 جنيه الذي سيعطونهم إياه كل شهر لثلاث أشهر قادمة، وعن التعويض بمبلغ 1200 جنيه عن المتر الواحد للمنازل المقامة، إلا أن الصغيرة عمرها ثماني أعوام، وقدراتها الحسابية ليست قوية، لذا ما تُدركه هو أنها لن تنام هذه الليلة على سريرها الوثير، حتى يجد والدها بديلا له، أما وحش التهجير فقد اطمئن لانتصاره في جولة جديدة، لم ير كل تبعاتها بعد.

 

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك ...اضغط هنا

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان