إعلان

أول مجندة في الجيش المصري تروي لمصراوي رحلتها.. "كرمها مشير ودعمها رئيس" - (حوار)

07:49 م الجمعة 30 سبتمبر 2016

أول مجندة في الجيش المصري

حوار ـ هاجر حسني:

تصوير ـ محمود أبو ديبة:

على سجيتها تتحدث، لا تخشى ذلة لسان ولا انفلات الكلمات من شفتيها، تترك الحديث ينساب بتلقائية ومرح غير آبهة بالنتائج التي ربما تترتب على مثل هذه الروايات، "أنا مبخاففش"، هكذا تصف الملازم أول ابتسامات محمد عبد الله، أول مجندة في الجيش المصري، نفسها، لم يكتب الله لها رزق الأبناء، فجعلت من جدران منازلها خير أنيس وشاهد على لحظاتها السعيدة، فهنا تجد ركنا لصور زفافها هي وشقيقاتها، وآخر يضم صور العائلة والوالدة والوالد، وثالث لتدرج الزوج في رتبه وبعض الأحداث من تكريمات للأشقاء والواد الذي جمعهم سلك الجيش والشرطة، وفي جهة أخرى دولاب للنياشين والميداليات التي حصل عليها الزوج طوال فترة خدمته، فبمجرد أن تطأ قدماك منزلها تشعر أنك تحركت بالزمن للماضي إلى حقبة ولت ربما الخمسينيات أو الستينيات أو أبعد من ذلك.

عمر آخر يُضاف لابتسامات عندما تسترجع ذكرياتها أثناء حرب 48، ابتسامة عريضة تعلو وجهها وحالة من البهجة والنشوة تعتريها فتشابه نبرات صوتها مع الأطفال وكأنها استعادت شمس غابت منذ عقود، "يااااه يا ريت الأيام دي ترجع تاني، بحنلها أوي، ولو قالولي ارجعي تاني هروح"، باعتناء شديد تحتفظ بدروع وشهادات التقدير التي حصلت عليها في تكريماتها، تخرجهم من حافظاتهم بهدوء وتتطلع بهم والسعادة تملؤها متذكرة تاريح كل تكريم والجهة التي كرمتها، "أنا لسه هعملهم دولاب كمان مش هسيبهم في العلب كده".

ربما من خلال لمحة سريعة تتساءل ما الذي تتذكره هذه السيدة التي تخطت العقد الثامن بعدة سنوات، ولكن مع بداية الحديث معها تتدفق عليك الأحداث والمواقف بترتيباتها الزمنية، فالتحاق "ابتسامات" بالجيش لم يكن وليد اللحظة، ولكن نشأتها في عائلة عسكرية كانت سببا وراء ذلك "كنت بتغاظ من اخواتي الأربعة علشان هم ضباط وأنا لأ"، ولحبها الشديد في الملابس العسكرية صنعت فستان وهي بعمر الأربعة عشر عاما وعلقت على أكتافه نجوم من القماش وهو ما رفضته شقيقتها التي تكبرها "تنهُدات" التي انتقلت للعيش معها وزوجها بعد وفاة والديهما "قالتلي هتودينا في داهية، بس جوزها دافع عني وقالها سيبيها تلعب".

انهت الفتاة دراستها الابتدائية بالمدرسة الفرنسية وحصلت على شهادتها من وزارة المعارف (التعليم الآن)، جلست في بيت شقيقتها"تنهُدات" تلعب بعروستها المصنوعة من القطن وهنا بدأت تكتشف حبها للتمريض "كنت بجيب سرنجات من الصيدلية وأديها للعروسة وأحيانا كنت أقول لأصحابي تعالوا أديكوا حقنة فكانوا يخافوا ويجروا"، ومع بلوغ ابتسامات لعمر العشرين تقريبًا، لم يكن اللعب بالعروسة القطنية والمزاح مع أصدقاءها كافي لها فبدأت في البحث عن شئ آخر تفعله فتقول: "لقيت وقتها إعلان في الجريدة عن إن الهلال الأحمر طالب متطوعات فروحت وقدمت"، درست بعدها ابتسامات شفهي وعملي لمدة عام وحصلت على شهادة التمريض.

عادت "ابتسامات"، إلى الجلوس في المنزل تبحث عن شئ آخر تشغل به وقتها، تعلمت الحياكة وشغل الـ "كنافا" وصنعت تابلوهات كثيرة تزين بها شقتها حتى الآن، ولكنها قررت بعد ذلك أن تبحث عن عمل بشهادة الهلال الأحمر في إحدى المستشفيات "أختي مكنتش موافقة وقالتلي بنت عبد الله بيه تشتغل ممرضة، بس جوزها قالها متقفيش في طريقها"، خلال هذه الفترة كانت ابتسامات تطالع الصحف وترى النماذج النسائية التي اجتازت حاجز التقاليد وخاضت مجال كانت هي الأولى فيه وتمنت أن تحذو ذات يوم حذوهم " كنت بشوف أو محامية وأول معلمة ودكتورة ومكنتش أعرف إني في يوم من الأيام هبقى الأولى زيهم في حاجة"، علمت الفتاة العشرينية بعد ذلك أن المستشفى العسكري يطلب 75 متطوعة للمستشفى العسكري وقت حرب 48 وكانت من أوائل المتقدمات".

جاء موعد المقابلة لاختيار المتطوعات، كانت ناهد رشاد وصيفة الملك وزوجة يوسف رشاد طبيب الملك ترأس اللجنة، تم قبولها ومع اشتداد الحرب أعلنوا حاجة المستشفى لعسكري في غزة حاجتها لـ 10 متطوعات وكانت ابتسامات في مقدمة المتطوعات للمرة الثانية "كنت دايما مستعدة" تضحك وهي تقولها، بعد الحصول على موافقة الأهل أعلنت ناهد رشاد أسماء المقبولات للسفر إلى غزة وكانت ابتسامات أول فتاة ضمنهم "أول ما نادت الإسم قالت الملازم أول ابتسامات، مكناش نعرف إننا هناخد رتب أو هنلبس زي عسكري، كنت حاسه بفرحة وقلق وقتها"، الخوف من الحرب شئ لم تفكر فيه ولكن كل ما كان يرهبها هو ركوب الطائرة "كنت خايفة جدًا أول مرة أركب بس لما لقيت ناهد رشاد قاعدة جنبي ومش خايفة اتشجعت".

في غزة كانت الحرب على أشدها، ضحايا ومصابين، ووجود النساء وسط هذه الأجواء لم يكن مألوفا "كنا بنشوف مآسي اللي متفجر في وشه لغم واللي دراعه أو رجله مبتورين، وكان في تحت المستشفى مكان علشان ندفن الضحايا والموضوع ده كان بيستمر طول اليوم"، الأوضاع الصعبة لم تثبط عزيمة ابتسامات وزميلاتها في الحرب بل كان يزيدهم ذلك إصرار على البقاء والتواجد لآخر لحظة "متأثرتش خالص رغم إن الضباط والعساكر الإسرائيلين بليل كانوا بيعملوا أصوات ذئاب علشان يخوفونا لأنهم كانوا عارفين إن في بنات في المستشفى"، طموح الفتيات في الحرب زاد بعد رؤيتهم للمجندات الإسرائيليات مسموح لهم بحمل السلاح والمشاركة في الحرب ولكن الملك لم يوافق بذلك "كان خايف علينا واحنا كنا متغاظين إن المجندات الإسرائيليات بيشيلوا سلاح".

توطدت علاقة الملازم أول ابتسامات، بناهد رشاد خلال الحرب، ولكنها بدأت قبل السفر إلى غزة من خلال تواجدهم أثناء الاستراحات في المستشفى العسكري حاولت أن تتقرب منها فسألتها أن تقرأ لها الفنجان "مكنتش بعرف اقراه وللصدفة الكلام كله طلع صح وقالتلي انتي من دلوقتي صاحبتي وهسميكي قطتي السوداء وقالتلي كتير من أسرار القصر"، كانت علاقة ابتسامات بناهد رشاد سبب في لقاءها الأول بالملك، فبعد واقعة الفنجان طلبت ناهد منها أن يذهبا إلى الملكة فوزية في القصر حتى تقرأ لها ابتسامات الفنجان ووقتها مر عليها الملك أثناء انتظارها وأدت له التحية العسكرية، والمرة الثانية أثناء تواجدها في المستشفى العسكري بالقاهرة حيث كان الملك يطمئن على المصابين لإهدائهم سمكة ضخمة اصطادها بنفسه "كانت الساعة 4 الفجر ولما العسكري بلغني مصدقتش نزلت لقيته في عنبر العظام وكنت المسؤولة عنه وسألني وقتها عن أحوال المصابين ومشي".

ولم تكن علاقة ابتسامات بناهد رشاد هي فقط التي توطدت خلال عملها بالمستشفى العسكري في القاهرة، فخفة ظلها ومرحها جعلها على علاقة جيدة بالضباط والعساكر المصابين خاصة وأنها كانت تحاول دائما الترفيه عنهم بطرقها الخاصة "كنت بجيبلهم قصب وجاتوه واسطوانات عبد العزيز محمود وننزل الجنينة ونسمعها كلنا".

10 أيام قضتها ابتسامات في غزة قبل أن تعود إلى القاهرة، ونظير المجهودات التي بذلتها الممرضات المتطوعات حصلن على نوط الجدارة الذهبي وساعة ذهب ونجمة فلسطين ونيشان "الدبانة" الخاص بالأخلاق الحسنة، ومن خلال موقف صغير حدث أثناء حضورها إحدى المباريات التقت محمد حبيب الذي أصبح فيما بعد زوجها "كان في ناس قاعدين في مكاننا وحصلت مشكلة فهو وفرلنا مكان نقعد فيه وقعد جنبي وبدأ يسأل أسئلة ظهر منها إنه شخص عايز يتجوز"، اعترض شقيق ابتسامات على زوجها في البداية بحجة أنه شخص خام واستنجدت هي باللواء محمد نجيب الذي كان صديق العائلة ليساعدها على إتمام الزيجة "روحتله وقلتله الأمين مش موافق فرفع السماعة وكلمه قاله أنا سألت عليه وهو شاب كويس وفعلا تم الزواج".

عقب ثورة 1952 أُصدر قرار بالاستغناء عن المتطوعات دون أي شكر أو تقدير، فشعرت ابتسامات بالحزن واستعانت بأحد الصحفيين ليثير قضيتها وهو ما تلاه اهتمام بسيط "اتكتب عننا كلام والموضوع كان له حيز في الصحافة بس لفترة بسيطة"، عاشا الزوجان بعد ذلك ما يقرب من 57 عاما خلال هذه الفترة لم يكن يعلم أحد عن الملازم أول ابتسامات شئ، حتى فارق حبيب الحياة في عام 2007 وترك ابتسامات وحيدة "مشوفتش راجل زيه في حياتي، بحس بوحدة من غيره وبشتاقله وخاصة لما اخواتي كلهم توفوا، بس اللي مصبرني إن أولادهم دايما بيسألوا عليا".

وفي 2010 كرم المشير طنطاوي، ابتسامات كأول مجندة التحقت بالجيش المصري في حرب فلسطين، وأنهالت عليها بعد ذلك التكريمات وكان أبرزها من الرئيس عباس أبو مازن وبدأ الجمهور يعرفها، وعند سؤالها عن ما تتمناه تجيب بأن كارنيه المحاربين القدامى هو أسمى أهدافها "أنا اشتركت في الحرب أمال إيه، احنا كنا مُعرضين إننا ننضرب في المستشفى في غزة أو إن طيارتنا تستهدف"، تقضي ابتسامات معظم الأوقات الآن بمفردها ما بين قراءة القرآن أو متجولة في منزلها، تجد تسليتها في الطبخ وقراءة القرآن وسماعه بصوت محمد رفعت، بعد أن كان البيت يعج بالضباط ليالي الخميس لسماع أم كلثوم وصوت زوجها الذي مازالت تسمعه يتردد في أرجاء المنزل.

فيديو قد يعجبك:

لا توجد نتائج

إعلان

إعلان