في "سوق الجزماتية" السوري.. حلويات بنكهة الذكريات
كتبت- هدى الشيمي:
شوارع طويلة ممهدة مضيئة، تلمع واجهات المحلات والمطاعم المختلفة، يقف الباعة مرتدين ملابسهم البيضاء الطويلة، خلف الصواني الكبيرة يمسك كل منهم سكينه ويقطع الحلويات المحشوة فستق ومكسوة بالعسل ويرصصها داخل علب مختلفة الأحجام، يقطعون "الشاورمة" ويضعوها في الخبز السوري المشهور ويقدموه للمنتظرين بحب، يعملون بكل ما أوتوا من قوة لكي يخف الازدحام داخل المحل، ويتمكن من استيعاب زوار جدد.
في بداية الأمر كان سوق الجزماتية الذي يمتد حوالي كيلو متر داخل حي الميدان بدمشق، خاص بتصنيع الأحذية أو ما كان يرتديه الشوام القدامى آنذاك، ومع مرور الوقت ذهب بعض التجار لبيع أطعمة ووجبات في الحي أيام الإجازات وقبل صلاة الجمعة، فتفاجأوا باقبال كبير من الزبائن فقرروا إعادة التجربة في الاسبوع المقبل ليزداد العدد ويكرروا الأمر حتى تحول إلى وظيفة ثابتة لصانعي الطعام وخاصة الفول والحمص، وأصبح من أهم الأسواق الغذائية.
يعد "أبو عبادة" من أكثر المترددين على سوق الجزماتية، "في رمضان بيكون زحمة كتير، والجو كتير حلو" يقولها متذكرا بيت عائلته الذي يقرب لمنطقة السوق في حي الميدان، ويمر شريط ذكرياته أمام عينيه، ويرى كيف كان يذهب برفقة والدته منذ حوالي 4 عقود لشراء مستلزمات الشهر الكريم من حلويات وغيره، حيث كانت وجوه البائعين البشوشة في انتظارهم.
"كان عندنا في السوق مطعم شاورمة بيعمل ساندويشة هيك صغيرة، بس منشان تاخدها تقف قدامه بالساعات"، يؤكد أبو عبادة الموجود في مصر الآن أنه لم ولن يأكل شطائر سورية كتلك التي تناولها في سوق الجزماتية.
على الرغم من الاختلاف والتغيير اللذان طرئا على العديد من الأحياء الدمشقية، إلا أن حي الميدان ما يزال محتفظا بأصالته، فهو نموذج للحي الدمشقي المعروف، الظاهر في الأفلام والمسلسلات الشامية القديمة، إلا أنه يزداد شهرة وازدحام في المناسبات الإسلامية كشهر رمضان أو أيام العيد.
عراقة سوق الميدان وسمعته وصلت إلى الدول الأجنبية في القارات الخمس، فانتقلت الحلويات السورية المعروفة والمشهورة إلى الأسواق العربية والعالمية خاصة تركيا وألمانيا ومصر، وتنشط حركة التصدير والبيع قبل حلول شهر رمضان، أما داخل سوريا ينقسم السوق إلى قسمين حلويات شعبية للفقراء، وفاخرة للأغنياء.
وداخل سوق الجزماتية لا يتعامل الباعة مع الحلويات كأي طعام مرصوص في صواني كبيرة هدفه الوحيد إدرار المال، ولكنه يتحول للوحات فنية يصنعونها بحسب الرغبة، فعلى الرغم من أن أغلبها يُصنع من الدقيق والسكر والعسل والفستق الحلبي والجوز، أحيانا يضيفوا أنواع خاصة من المكسرات، وأحيانا أخرى يصنعوها بسمن نباتي.
وفي أحد الأيام كان عدنان أبو عون برفقة اصدقائه يسيرون داخل سوق الجزماتية، وبعد انتهاء عملية الشراء ووضع الأغراض داخل السيارة ووصولهم لمدينتهم التي تبعد حوالي 90 كيلو متر عن دمشق، اكتشفوا إنهم لم يدفعوا ثمنها.
وفي صباح اليوم التالي عادوا إلى السوق لتسديد المستحقات، "دُهشنا بالبائع.. عندما اعتذرنا له ابتسم كثيرا وقال لنا كنت متأكد من عودتكم مرة أخرى"، يقول أبو عون، أخبرهم البائع إن بضاعته حلال والحلال لا يضيع عند أهل الحق، لذلك لم يرد ازعاجهم في المطالبة بالأسعار، لأنه رآهم يترددون على السوق أكثر من مرة، وعادة ما تسبب مثل هذه المواقف في بناء علاقات انسانية طيبة قائمة على الاحترام المتبادل بين المواطنين داخل الاحياء الدمشقية القديمة، وكثيرا ما تتحول إلى زيارات ذات طابع عائلي، يؤدي بعضها أحيانا للتصاهر بين العائلتين.
مع اقتراب شهر رمضان الكريم، يضع أصحاب المحلات الطاولات على الأرصفة، يزينون الطعام بأشكال تجذب العين والقلب قبل اللسان، ويصروا عليها "البقلاوة"، و"الكنافة المبرومة بالفستق الحلبي"، و"النمورة" التي تشبه الهريسة أو البسبوسة، و"عش البلبل"، و"الوربات" أحد أنواع البقلاوة، بالإضافة إلى الشاورما، والحمص، والفول.
لدى سمير وزوجته دائما الكثير من الذكريات التي تجمعهما بالسوق أبرزها في فترة خطبتهما، ففي إحدى الليالي كان بمنزلهما وقبل الذهاب والعودة مرة أخرى، اقترح عليهما والدها الذهاب للسوق، "ع الساعة 3 باليل روحنا واكلنا واتفسحنا وطلعنا بعدها على جبل قاسيون"، يقول الصحفي السوري الموجود الآن في فرنسا إنه وزوجته كانا يذهبان إلى السوق دائما، خاصة بشهر رمضان لشراء حاجتهم.
وكما شهد حي الميدان انتعاشا اقتصاديا ورغد، كان له نصيبا في الأحداث التي مرت بها سوريا خلال السنوات الخمس الماضية، ففي السنة الأولى للثورة السورية خرج مجموعة من الشباب والفتيات يؤكدون سلميتهم ورغبتهم في تحرير البلاد، رافعين رايات بلادهم، يتضرعون إلى الله بالدعاء لحمايتهم وتخليصهم مما هم فيه، وكانت اللحظة الحاسمة في 15 يوليو 2012 عندما أعلن أهالي أحياء منطقة الميدان والقدم وغيرهم تأييدهم للجيش السوري الحر، فطافوا الشوارع وهتفوا وصرخوا، ليمتد القتال إلى المنطقة وينتشر سريعا، فأثر ذلك على الحي وأصبح منطقة أشبه بمدينة الأشباح التي لا يعيش فيها إلا مجموعة صغيرة، وبالتالي تأثر سوق الجزماتية وغيره من الأسواق الدمشقية القديمة.
مظاهرات في ميدان الجزماتية 10-11-2011
وبعد فترة ليست قصيرة دبت الروح في سوق الجزماتية وأصبحت الأمور شبه طبيعية، لتوافد كافة أهالي كافة المحافظات والبلدات السورية عليه، ربما لأنه كان أكثر الأحياء أمنا نظرا لأن هدفه الأول والأساسي هو البيع والشراء، أو لأنهم وجدوا فيه طوال الوقت الوجه البشوش، والذكريات الحنونة التي تذكرهم بالسهر مع عائلاتهم عند بائعي الفول والحمص، والسهر لساعات طويلة برفقة اصدقائهم منتظرين "ساندوتش الشاورما"، أو التردد على محل حلويات لتناول المبرومة أو البقلاوة، لسان حالهم قول أحد وجهاء الحي في أحد الحوارات التليفزيونية "كانوا بيراهنوا على حي الميدان، فإذا راح راحت دمشق".
فيديو قد يعجبك: