في محيط "القديسين".. الأمن يمضي حضور وانصراف وأجراس الوجع تدق
كتبت- علياء رفعت:
تصوير- علاء أحمد:
ليلٌ يشبه البارحة، ظُلمةٌ لا زالت تسود الأفق رغم أن الفارق الزمني تجاوز الست سنوات، أشلاء تتناثر، صرخات تتعالى، والدماء تروي قارعة الطرقات. دموعٌ تنهمر لفراق الأحبة، وغُبار الإرهاب يلوح مُبتسمًا في وجه الأحزان، لتبقى حادثتي "القديسين" و"البطرسية" وجهين لعُملة التقصير الأمني.
على بُعد 200 كم من القاهرة وتحديدًا بشرق الإسكندرية، في حى سيدي بشر، تقع كنيسة القديسين، الوجه الأول للبطرسية الحزينة التي ضربها الإرهاب في مقتل كما فعل بالقديسين من قبل."خليل حمادة" أو شارع الكنيسة والمسجد -كما يطلق عليه البعض- هو ما يقودك رأسًا للكنيسة. الشارع مُغلق من جانبيه -منذ التفجير وحتى الآن- بحواجز إسمنتية لا تسمح إلا بعبور المارة فقط دون السيارات.
بالقرب من مبنى الكنيسة توجد سيارة واحدة تابعة للشرطة لا تحوي أى رُكاب أو رجال أمن، بينما يجلس شُرطيان في كُشك الحراسة دون أن يحركا ساكنًا أو يقوما بتفتيش من يقترب من الكنيسة والاطلاع على هويته الشخصية.
تقدمنا على مرأى من الشرطيين نحو الكنيسة، ونحن نحمل عِدة حقائب، ولكن كلاهما لم يستوقفانا. عِند الباب الرئيسي وقفنا ننتظر الإذن بالدخول، وأمامنا وقفت فتاتان لم تتجاوز كلاهما السادسة عشر، رفض الأمن الداخلى -الذي تُعينه الكنيسة- السماح لهم بالدخول لعدم حيازتهم هويات شخصية أو دّقّ صُلبان يثبت أنهم ينتمون للديانة المسيحية. مُحادثة استمرت قرابة العشر دقائق خاضتهما الفتاتان مع رجال الأمن بلا فائدة، ليستقر الأمر على أن يضمن دخولهم أحدًا بالمجىء، فهاتفت إحداهما والدتها على الفور.
على جانب الطريق انتظرت الفتاتان، فتوجهنا نحو أمن البوابة الذي رفض دخولنا رفضًا تعسُفيًا في بداية الأمر، ثم عقب عِدة اتصالات أجراها الحارس، سمح لنا بالدخول. قبل الولوج من البوابة الرئيسية للكنيسة تحقق الأمن الداخلي لها من هواياتنا الشخصية، وتم تفتيش كل الحقائب التى نحملها تفتيشًا دقيقًا قبل أن نتركها لنعبر البوابة الإلكترونية دون أن تكون بحوزتنا أى معادن تُذكر.
داخل الكنيسة، وعلى جهة اليسار يقابلك ما يطلق عليه أبناء المكان "مزار الشهداء"، وهو مكان تم تخصيصه عقب 5 شهور من الحادث ليُصبح مزارًا يحوى كُل أثرٍ للشُهداء بداية من صورٍ لهم بجوار أيقونة السيد المسيح، مرورًا بالملاءات التى كانت تُنقل فيها أشلائهم وتُمسح بواسطتها دمائهم وانتهاءً ببقايا القنبلة التى انفجرت بالإضافة إلى بعض القطع الحجرية التي تفتت من جدران الكنيسة أثناء الانفجار. منذ الحادث وحتى الآن والجموع تتوافد على ذلك المزار يومياً للتبرك، التذكِرة، وترك قِطع صغيرة من الورق الأبيض -يحوى أمانيهم المكتوبة- بجوار رُفات الشهداء وآخر ما تبقى منهم أملًا في تحقيق تلك الأماني عن قريب.
"التواجد الأمني لوزارة الداخلية كان بيبقى في الأعياد بس" بهذة الكلمات بدأ المهندس عادل عزيز القائم على الخدمة بكنيسة القديسين حديثه إلينا، مؤكدًا أن الوضع التأميني للكنيسة قبل حادثة الانفجار كان يقتصر على تأمين داخلي توفره الكنيسة من أبنائها لكي يقوموا بحراستها أما التأمين الخارجي فكان يتم عبر إخطارات تبعث بها الكنيسة للوزارة بمواعيد الأعياد، لترسل الأخيرة أفرادًا يعملون على تأمين محيط المكان بمناوبات يسلمونها لبعضهم البعض عقب قضاء كُل فردٍ منهم لعدد معين من الساعات أثناء الحراسة.
أما عن كيفية تعيين أفراد الأمن الإداري الداخلي للكنيسة فيقول عزيز بأنه يتم عن طريق مكتب للتوظيف داخل الكنيسة هدفه مساعدة أبنائها في الحصول على الوظائف، وأن هناك اشتراطات عِدة تتطلبها الكنيسة لتعيين حُراس في أمنها الإداري منها؛ ألا يتجاوز سِن من يتم تعيينه الأربعين عامًا، أن يكون لديه خبرة أمنية بالعمل في مجال التأمينات من قبل، وأن يكون لديه حِس أمنى يقظ تعمل الكنيسة على تنميته عن طريق الاتفاق مع وزارة الداخلية بإدراج هؤلاء الحراس بدورات أمنية لدى الوزارة.
قبل حدوث التفجيركان أفراد التأمين الداخلى للكنيسة لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة، ولكن الآن وصل عددهم إلى حوالي ثمانِ أفراد بمناوبات مختلفة، بينما التأمين الخارجي فقد اشتد بعد الحادث ثم عاد ليخفت مرة أخرى عقب هدوء الأجواء، حسبما يقول عزيز.
"بنحاول قدر الإمكان نحافظ على الأمن الداخلي للكنيسة، أما التأمين الخارجي ده من اختصاص وزارة الداخلية" قالها عزيز موضحًا أن الكنيسة تسعى لجلب المزيد من الأدوات التأمينية الحديثة التى تتواجد في المطارات الكبرى، وأن تلك الأدوات باهظة الثمن سوف تتحمل الكنيسة تكلفتها بالكامل تمامًا مثلما حدث عِندما قامت إدارتها الداخلية بشراء ما يزيد عن أربعين كاميرا تم زرعهم في الأنحاء المختفة داخلياً وخارجياً بعد الانفجار. لم يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة للترميمات بعد الحادث والتى يوضح عزيز أن إدارة الكنيسة هى التى تحملت تكلفتها بالكامل رغم كونها جسيمة.
ثلاث دقائق أو أقل، هى ما فصلت "فكري ناشد" عن اللحاق بعائلته للسماء. ألمٌ ينغز قلبه يومياً منذ الفِراق رغم مُضي الوقت، إلا أن مُصابه كان عظيمًا. "دخلت أصلي أنا وعيلتي وخرجت من غيرهم" بهذه الكلمات المقتضبة لخص ماجد المأساة التى يحياها يومياً بفقد ابنتيه، زوجته، وأخت الزوجة.
على درجات سُلم الكنيسة سبقهن عقب انتهاء الصلاة، تأخرعنهن قليلًا ليدوي صوت رعدِ الانفجار ويحجب الغبار الرؤية، بينما دق الخوف قلبه ليُشعره أنه لن يعود للمنزل برفقة عائلته بعد ذلك اليوم. اللحظات مرت ثقيلة على الرجل الخمسيني الذي كان يهرول لإنقاذ كل من يستطيع أن يمد له يد العون أثناء البحث عن عائلته، لكنه توقف فجأة لدى رؤيته لجثتىّ ابنته الصغرى "مارتينا" وزوجته "سونيا" غارقتين في دمائهما بجوار بعض الأشلاء المتناثرة لآخرين. "كانت مذبحة" وصفٌ لا يليق غيره بما حدث يومها كما يقول ناشد الذي لا يعلم حتى الآن كيف مر ذلك اليوم عليه دون أن يشت عقله، لكنه لا ينسى أبدًا أن يومًا بدأ بالصلاة في حضرة الرب، انتهى بتعرفه على جثتىّ ابنته "مريم" وأخت زوجته بالمشرحة.
"الكنيسة مش مطلوب منها تحمي نفسها وتعين أمن داخلي" قالها ناشد الذي يرى أن تأمين دور العبادة هو أمرٌ يقع على عاتق الدولة بالدرجة الأولى. فأفراد الأمن الخارجي المعينين من قِبل وزارة الداخلية في "حالة استرخاء" -كما يقول- بسبب عدم تفتيش مرتادي محيط الكنيسة واكتفائهم في بعض الأحيان بالاطلاع على دقّ الصلبان أو الهويات الشخصية -في المناسبات فقط- دون تفتيش الأشخاص أو الحقائب المحمولة، ليستطرد "الدولة معندهاش جديّة في تأمين الكنايس".
بعد سِت سنواتٍ على الحادث دون تقديم الفاعل للمحاكمة أو إحكام تأمينات الكنائس، حَوّل فكري ناشد منزله إلى مزارٍ لما تبقى من متعلقات عائلته الشخصية، آمِلًا في محاكمةٍ عادلة لمن سلبه الحياةِ وهوعلى قيدها "صورهم دايمًا قدامي، وهُما معايا في كل لحظة وكُل نَفس".
في سبتمبر الماضي، ألزمت محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية، وزارة الداخلية بتقديم كافة التحريات والمتهمين في قضية كنيسة القديسين إلى نيابة أمن الدولة العُليا، في حُكمٍ عَلّق عليه "جوزيف ملاك" محامي شهداء الكنيسة بأنه "تاريخي، والأول من نوعه".
"القضية كانت جثة هامدة بنحاول نحييها طول الوقت" قالها ملاك مُفسِرًا الصعوبات التى واجهها في عملية سير القضية وحتى الوصول للحكم، مؤكِدًا أنه كانت هناك محاولات مستمرة لدفن ملفها بعيدًا عن الأعين خاصة وأن الوقت الذي وقعت به حادثة القديسين تزامن مع ارتباك في المشهد السياسي المصري بحدوث الثورة. واحدة من أكبر هذه الصعوبات التى واجهها المحامي تتلخص في اكتشافه لكون ملف القضية عبارة عن محضر شرطة، وأن المتهمين بها قد أخلىَّ سبيلهم قبل عرضهم على النيابة، ليقرر ملاك رفع دعوى أمام القضاء الإداري ضد الدولة بصفتها لاستكمال التحقيقات والحصول على التحريات فأثارت القضية الرأى العام العالمي، بحسب المحامي.
الهدف من القضية كما يوضحه ملاك هو استكمال التحريات للوصول إلى الجاني بالدرجة الأولى لأن ذلك هو"حق المجتمع على الدولة"، بالإضافة إلى توصيل رسالة مُفاداها عدم السكوت على الاعتداءات التى تتعرض لها الكنائس، والتى يصفها ملاك بأنها هجمات إرهابية تستهدف زعزعة استقرار البلاد، إشعال الفتنة الطائفية، وإظهار مصر في المجتمع الدولي بصورة الغير قادرة على حماية الأقباط.
لم يختلف حال "سحر" كثيرًا عن حال "فكري"، فبينما فقد هو أسرته كاملةً، فقدت هى رب أسرتها التى تصدعت بفراقه. يوم الحادث منقوش بالدم في ذاكرة أبناء سحر قبل ذاكرتها، فالأسرة التى كانت تُصلي مجتمعة داخل الكنيسة استبقها ربُها إلى الخارج أمام أعين ابنته الصغرى، التى ما لبثت أن سمعت صوتًا يدوي اختفى بعده والدها عن الأنظار.
ساعاتٌ مرت وكأنها دهرًا على سحر وهى تبحث عن أبنائها الصِغاروسط الأشلاء، لكنها لم تتصور قط أن يكون زوجها من الضحايا "فضلنا ندور عليه طول اليوم، ومعرفناش إنه اتنقل للسما غير لما ذاعوا اسمه في التليفزيون".
لا ترغب "سحر" بأكثر من مُحاسبة الفاعل، ليس للقصاص ولكن لكي يكون عِبرة لمن يفكرون بتكرار هذا العدوان على أى كنيسة مرة أخرى "الناس مذنبهاش حاجة تروح تصلي تخرج ميتة، وطول ما الفاعل متحاسبش الموضوع هيتكرر ومش هيبقى في أمان".
اقرا الملف..
على أبواب كنائس مصر.. ''للبيتِ ربٌ يحميه'' – (ملف خاص)
''البطرسية'' تتشح بالسواد.. والأمن لا يحكم قبضته رغم الأحزان
في كنائس المنيا.. الأمن ''شاهد مشافش حاجة''
في كنيسة ''كفر حكيم''.. دخان الغياب الأمني يُسوّد جدران بيت الرب
فيديو قد يعجبك: