العائدون من حلب: فقدنا "محمد" في رمضان.. وغفران تعجز عن إرضاع طفلها لنقص الطعام
كتبت - نانيس البيلي:
أشلاء متناثرة.. أهالي يجمعون أجزاء بشرية في أكياس لدفنها.. قصف عشوائى فوق رؤوسهم.. أطفال ينامون بتوجس.. طرق الباب يفزعهم ربما قذيفة تصيبهم.. مشاهد حقيقية عايشتها عائلة كمال حسن المصرية العائدة من حلب قبل ساعات بعد أن ظلوا أكثر من 40 عاما في سوريا.
"لو إلك صاحب أو أخ في سوريا ما تزعلو بركي بتصحى الصبح ما تلاقيه"، مقولة سورية انتشرت بين أهالي حلب بعد اندلاع الحرب قبل 6 سنوات، تدليلا على احتمالية الموت في أي لحظة.. بحسب "كمال"، المصري الذي أعادته الخارجية، صباح الأحد، مع 8 من أسرته، كان الموت يحاصرهم في كل مكان، والقصف العشوائي لا يفرق، هلع ورعب لدى الجميع من أصوات القذائق التي لا تنقطع.. مشاهد قاسية عايشتها الأسرة العائدة لتوها من داخل "جحيم حلب".
صعوبة شديدة في دفن الجثث خلال عام ونصف مضى، كانت مشاهد القتلى بشوارع حلب مأساوية، تترك الجثامين والأشلاء لساعات بشوارع المدينة بعدما منع القصف والنيران دفن القتلى، تحكى غفران زوجة كمال.. لكنها تؤكد أن شقيق زوجها الذي توفي جراء القصف كان الأوفر حظًا لدفنه بشكل أدمي في المقابر.
تقول غفران إنه خلال الفترة الأخيرة أصبح من يقتل يدفن بأي مكان كالشارع أوالحديقة "فيه راجل استشهدت زوجته من قصف حفر أمام منزله ودفنها".
الأشلاء المتناثرة كانت إحدى المشاهد اليومية التي اعتادها أهل حلب الشرقية "مناظر كانت يا لطيف توجع القلب"
أضافت غفران: الأجزاء البشرية بالطرقات "كنا نجمع أشلاء الشخص في كيس ونروح دافنينه"، وتحكي عن المعاناة النفسية التي لحقت بها وبأطفالها الأربعة جراء المشاهد المأساوية "أنا اتعقدت نفسيًا في الفترة الأخيرة والولاد اتعقدوا"، وأن أبنائها كانوا ينامون بتوجس، وإذا طرق الباب يعتقدون أنها قذيفة فيفزعون من النوم ويصرخون.
مازال أفراد الأسرة المصرية، التي أعادتها الخارجية من حلب يتذكرون يوم استشهاد شقيقهم "محمد"، يحكون عنه بمرارة بعدما ترك وجع لا يمحى داخل القلوب، يقول "كمال"، صاحب الـ42 عامًا، إنه بعد دخول المسلحين إلى حلب في يوليو 2012، اصطحب عائلته بسيارته وفروا إلى مناطق النظام، بعدها بأيام طلب منه "محمد" أن يذهبا إلى منزلهما لإحضار بعض الأغراض والعودة مرة أخرى، وكان ذلك بشهر رمضان في أغسطس وبعدما تحركا معًا، خرج شقيقه "محمد" لصلاة التراويح بعد تناوله الإفطار، وبمجرد خروجه من باب المنزل سقطت فوقه قذيفة وأردته قتيلاً "خدته دفنته وروحت سجلت وفاته في مستشفى الجامعة ورجعت للعيلة".
الحرب تفرق الأهل والأحبة كما تنشر الخراب والدمار، هكذا فعلت الحرب السورية بين أسرة "كمال" وعائلة شقيقه الراحل "محمد" بعدما استشهد عام 2012 بقذيفة أمام منزله بحلب الشرقية، وخشيت زوجته على أبنائها وتركت منزلها وانتقلت بهم إلى أحد المخيمات بمنطقة "الفيض" بحلب الغربية حيث تخضع لجيش النظام "أمهن خافت، قالت راح زوجي ما بدي واحد من ولادي كمان يروح"، تردف "غفران"، وظلت العائلتين لسنوات بعيدة عن بعضهما "كنا في بلد واحدة بس مش شايفين بعض".
انتقال زوجة "محمد" بأطفالها الخمسة إلى حلب الغربية، كان أكثر مأساوية غير أنهم شعروا بنوع من الأمان لسيطرة الجيش النظامي على المنطقة، بحسب "فاطمة" الابنة الكبرى ذات الـ14 عامًا، وتشير إلى إقامتهم بمخيم عبارة عن منزل مؤسس بأعمدة دون جدران "بناية على العضم من غير حيطان".
تحكي "فاطمة" عن حياتهم القاسية بما يسمونه "حلب النظام" وتقول إن والدتها عملت في تنظيف المنازل والطهي لبعض السيدات المقتدرات بالمنطقة "الواحد لو ما اشتغل ما بيقدر يعيش" وكانت كسوتهم تأتي من بعض العائلات الميسورة تعطيهم ثيابًا مستعملة، وأن المطر كان يغرق منزلهم "وضع مأساوي بحلب كتير مو شوي".
نقص الغذاء
نقص المستلزمات الغذائية والأدوية ولبن الرضع، كانت ضمن ملامح الوضع السيء بحلب، ويشير "كمال" إلى صعوبة خروج الأهالي من منازلهم لشراء احتياجاتهم بسبب القصف العشوائي، ولعدم وفرة المستلزمات كذلك بعد الارتفاع الجنوني في الأسعار، فزجاجة الزيت ارتفع سعرها لـ10 آلاف ليرة بعدما كانت بـ300 ليرة "قعدنا أيام كنا بنطبخ رز على المياه بس" لكون الأرز أبرز السلع المتوفرة بثمن معقول 500 ليرة للكيلو.
تقول "غفران" إن زوجها كان يمتنع عن الطعام بالشهور الأخيرة لكي يوفره لأطفاله
كما كان هناك نقصا بالخبز، وكانت المحال تبيع القليل جداً للأهالي "كانوا يجيبولنا 7 أرغفة لنهارين وإحنا 6 أشخاص تاكلي نص رغيف النهاردة ونص رغيف لتاني يوم"، وتقول "غفران" إن زوجها كان يمتنع عن الطعام بالشهور الأخيرة لكي يوفره لأطفاله "كان يقولي طعمي العيال وأنا مش مهم، أقوله وانت ما بيصير هيك"، وتشير إلى أنه ببداية الحرب كانت الأمور "معقولة"، لكن أصبح الوضع مأساوي منذ عام بعد دخول روسيا في الحرب السورية "10 سبتمبر 2015".
"صرت أبكي وأقولهم اكشفوا عليا إذا صدري فيه حليب ما تعطوني، بس عشان الصبي"
معاناة الزوجة السورية لم تتوقف عند هذا الحد، بل أثقلتها عجزها عن إرضاع صغيرها "زكريا" بعد شهرين من ولادته بعدما مرضت وضعف جسدها من قلة الطعام، وزاد المشهد مأساوية ذهابها إلى إحدى مقار الإغاثة لطلب حليب لصغيرها ورفضهم إعطائها بذريعة عدم حاجتها لامتلاك زوجها سيارة "صرت أبكي وأقولهم اكشفوا عليا إذا صدري فيه حليب ما تعطوني، بس عشان الصبي" تلمع عيناها بالدموع متذكرة بكاء صغيرها ليلاً من الجوع وجلوسها بجانبه تبكي، وحالة الإعياء الشديدة التي عانى منها قبل أن تعالجه السفارة.
نقص الأدوية
نقص الأدوية، كان المشهد الدائم بحلب الشرقية طوال الـ6 سنوات، ويقول "كمال" إن الدواء القليل المتوافر كان "تركي" وليس سوري "والدواء التركي ميعملش حاجة ملوش مفعول"، كما انتشرت بالمدينة عبوات لحليب الأطفال منتهية الصلاحية "كانت فاسدة تاريخها من سنة".
انتشرت بالمدينة عبوات لحليب الأطفال منتهية الصلاحية
8 أشهر كاملة، ظلت خلالها حلب الشرقية دون مياه او كهرباء، بحسب "كمال"، ويشير إلى أنها كانت تعود لـ15 دقيقة فقط وتقطع باقي اليوم بسبب القذائف التي كانت تقطع الأسلاك.
تحكي "غفران" مشهد تصفه بـ"الهزلي" بين الجيش الحر والجيش النظامي، بعدما سيطر الأول على المياه" والثاني على الكهرباء، ودارت بينهما عملية مقايضة "ابعتلي مياه أبعتلك كهرباء"، وتشير "غفران" إلى أن الأهالي كانوا يعانون بينهم، وأن الجيشين غيرا مكترثين بالأزمة لامتلاكهم مولدات وتوافر كل شيء لديهم "المولدات ما بتطفى ليل ولا نهار عندهم"
تصف العائلة المصرية عملية توزيع المعونات القادمة من الخارج بغير العادل، وأن الجيش الحر يستحوذ على المعونات لأهله "عايشين أحسن عيشة والشعب اللي دايق المر"، وأنهم يجاملون الموالين لهم لكي يحذو الجميع حذوهم "يا تنضم معنا وتاخد لبس وأكل يا ما بتنضم وما إلك شيء".
التعليم فى الحرب
تسببت الحرب السورية في وجود جيل أمي لايعرف القراءة والكتابة كما في حلب الشرقية بعد تحويل جميع مدارسها إلى مقار لتوزيع الإغاثة، أو فرار الطلاب من المدارس بعد حالة الرعب التي تصيبهم من قصف المدارس وهم بداخلها كما في حلب الغربية، فلا قيمة للعلم أمام موت يحدق بالبشر كل لحظة.
تقول "غفران" إن أبنائها "عبدالرؤوف" 10 سنوات و"محمد" 6 سنوات لا يعرفون القراءة أو الكتابة بسبب الحرب وتتذكر مشهد مؤثر داخل السفارة عندما طلب أحد العاملين بها من نجلها "عبدالرؤوف" الإمضاء على ورقة تخصه "قاله اكتب اسمك بس يا حبيبي، رد مبعرفش، فقاله طيب خلاص ابصم" وأنه كان متعجبًا لعدم معرفة طفل بعمره كتابة اسمه.
الرعب والهلع من قصف المدارس بالقذائف، كان سببًا لفرار معظم التلاميذ من مدارس حلب الغربية، رغم وضعها الأفضل نسبيًا لسيطرة الجيش النظامي عليها، بحسب الشقيقتان "فاطمة" و"هبة"، فبعد أن تركت "فاطمة" الدراسة وهي بعامها التاسع لتولي شؤون المنزل وقت غياب الأم التي عملت في المنازل للإنفاق على صغارها، غادرت "هبة"، ذات الـ12 عامًا، المدرسة هي الآخرى، بعدما سقط جدار الفصل عليها وزميلتها نتيجة قصف المدرسة ونجاتهما بأعجوبة "خفنا كتير صارت عندنا حالة رعب".
تتذكر "هبة" المشهد، وتقول إنه كان مأساويًا، وأن زملائها اعتقدوا وفاتها "صاروا يقولوا هبة وهدى ماتوا" وأنهم نزلوا أسفل المقاعد بعد سقوط الحائط عليهما، وأخذوا يشيرون لزملائهم الذين انتشلوهم من أسفل الركام "تراب وغبرة وحالة بتأسي" وبعدها اتخذت قراراً بترك المدرسة واقنعت والدتها "صارت تقول لأمي بركي متت بركي زعلتي علي مابدي روح" تقول شقيقتها "فاطمة".
فيديو قد يعجبك: