على "مائدة يناير" بالسويس.. ذهبت الثورة وبقيَّ رحيقها
معايشة- أحمد جمعة ومحمد سعيد ومحمود سليم:
قاعة رتيبة تفيض بالتفاصيل الثورية، التف حولها سياسيون وانخرط معهم شباب متمردون مما أصابهم في مراحل النشأة الأولى، يرسمون خريطة تحركهم يوم 21 يناير 2011 لتوجيه التحية للثورة التونسية التي أشعلت فتيل الانتفاضة العربية ضد حكام اتخذوا من كراسي الحكم "إرثًا" دائمًا، حين نفضت عن كاهلها رئيسها "الهارب" زين العابدين بن علي.
"لا كرامة لجائع.. لا قوة لمريض.. لا طمأنينة لمن لا بيت له"، ثلاث عبارات كُتبت على لوحة مُعلقة بإحدى جدران قاعة الحزب العربي الناصري، تتوسطها صورة للزعيم الراحل جمال عبدالناصر، كانت محرابًا للجالسين على المائدة الخشبية العتيقة في تحديد أولوياتهم ليوم وضع الـ"وردة" ذات العطر الفواح، إهداءً لثورة "الياسمين التونسية".
ينفث سيد أبو طالب، دُخان "العمر العتي"، ينتظر الانتهاء من طرح سؤالنا بشأن حركة الشعب "السويسي" في ثورة 25 يناير. ببطئ يقول لنا إنها "لم تكن لقيطة". يصمت بُرهة ليستجمع أدق ذكريات الأيام الخوالي: "كان هناك إرهاصات تمت قبل الثورة بعدما حركت (كفاية) و(الجمعية الوطنية للتغيير)، المياه الثورية الراكدة، حيث قمنا بتنظيم عدد من الوقفات الاحتجاجية إبان حكم مبارك، وكانت هتافاتنا ضد مشروع توريث الحكم لجمال مبارك، أو تمديد ولاية مبارك نفسه".
يسرد "شيخ السياسيين بالسويس" ما دار يوم ان قرروا أن يحتموا بالشارع في وجه الأمن الرافض لأي حركة احتجاجية: "كنا طالعين لتحية ثورة تونس ومكنش فيه كلام لحاجة تانية، كنا حوالي 50 واحد، وكان قصة إن الناس تخرج وتهتف في مظاهرة دا صعب جدًا". لكن الصوت ارتفع ليضرب "رأس السلطة" ذاته، فالغضب المكتوم في النفوس جاء حينه لكي يخرج من صدور المُضطهدين. يقول أبو طالب: "محمد عبد الرازق أمين الحزب الناصري بدأ يهتف بصوت مسموع (النهاردة في تونس بكرة في مصر.. يا مبارك يا مبارك فندق غزة في انتظارك). كان الأمن أضعاف أضعاف المتظاهرين وكونوا حلقة حولنا كما كانت عادته في أي حركة احتجاجية".
في خضم ذلك كله، كانت الدعوات تجوب أنحاء الجمهورية للتظاهر يوم "عيد الشرطة" لإيصال رسالة للقيادة السياسية بما ترتكبه قوات الأمن بحق المواطنين، في ظل انتشار حالات التعذيب داخل أقسام الشرطة، وكانت السويس في صدارة المشهد -والكلام لا يزال لأبو طالب- حيث بدأنا في توزيع المنشورات لدفع الناس للنزول يوم 25 يناير، حين اندفع الشباب يكتبون "عبارات الغضب" على جدران البنايات بميدان الأربعين، قبل أن يسقط "مصطفى رجب" أول شهداء الثورة على إثر طلق ناري من قوات الشرطة، لتندفع الدماء التي سقطت منه في كل "عروق" ميادين الثورة وتشتعل الأحداث بعد ذلك.
الثورة بدأت في 2005
أحمد الكيلاني، محامي أربعيني ومنسق حركة كفاية بالسويس، لا يرغب في استكمال سرد أحداث الثورة قبل الإشارة إلى عدة "نقاط مضيئة" في الحركة الثورية في السويس. يقول: "لا يمكن بأي حال أن نتذكر 25 يناير في السويس قبل المرور على السنوات السابقة لها الحدث الذي هز المدينة، حيث تظاهر العشرات في عام 2005 مع بداية تكوين حركة كفاية في ميدان النافورة في مواجهة ديوان عام المحافظة ومديرية الأمن لرفض استمرار نظام مبارك".
ومن ذلك الحين، نشط الاتجاه في المدينة للانضمام للحركات المعارضة ضد نظام الرئيس "المخلوع"، حيث نظمت القيادات السياسية مؤتمرًا جماهيريًا للجمعية الوطنية للتغيير في مسرح الأربعين عام 2010، حضره قيادات الجمعية على رأسهم الدكتور عبدالجليل مصطفى والدكتور حسن نافعة. ويرى "الكيلاني" أن مثل هذه المؤتمرات أدت إلى تعاظم الدور السياسي في الواقع السويسي وشحن حالة الزخم الثوري على أرض الواقع.
"هتفنا بسقوط مبارك قبل أن يسقط مبارك".. يفتخر الكيلاني أنه وقف يهتف "يسقط يسقط حسني مبارك" في مارس عام 2007، إبان إجراء الاستفتاء على التعديلات الدستورية للمادتين 76 و77، وإلغاء الإشراف القضائي على الانتخابات. يزيد منسق حركة كفاية ويقول: "قلنا في المظاهرة إن النظام قد فقد شرعيته كاملًا وفي انتظار تشييع جثمانه، واعتقد اللهجة في السويس كانت أعلى من الموجود في العاصمة نفسها".
ويضيف: "بعد انتخابات مجلس الشعب في 2010 نظمنا تظاهرة كبيرة عند ديوان عام المحافظة، ثم أقمنا بعدها بأيام (عزاء للديمقراطية في مصر) حضره أبو العز الحريري وحمدين صباحي وأشرف بلبع، وكان واضحًا للعامة أن اللهجة الثورية أضحت في تصاعد مستمر بعد كل هذه التراكمات".
يسترجع محمد عبد الرازق أمين الحزب الناصري، تفاصيل الساعات الأولى في صباح 25 يناير كأنها وقعت للتو، لا تذهب الأحداث جفاءً، إنما تمكث في ذاكرته كلما مرت السنون: "كان هدفنا في هذا اليوم إفساد فرحة الشرطة، وارتفع سقف مطالبنا بعد ذلك لإقالة وزير الداخلية حبيب العادلي. كانت وجهة نظرنا أننا لو استطعنا حشد نحو 20 ألف مواطن في كل ميادين الجمهورية ستصبح ثورة شعبية تجرف في طريقها كل مواطن العطن".
الإخوان.. على حسب الريح
ستبقى في حلق "عبدالرازق" غُصة من يوم 24 يناير، حينما أبلغه سعد خليفة مدير المكتب الإداري لجماعة الإخوان في المحافظة برفضهم المشاركة في المظاهرات التي يدعون إليها. سألته: "هننزل بكره نتظاهر في الأربعين، ما موقفكم؟" أجابني بأن الجماعة لم تقرر المشاركة في هذه المظاهرات، وأضاف: "نحن لم ندع ولم نُستشر". لكنهم عندما استشعروا أن هناك مؤشرات قوية لرحيل النظام أرادوا أن يضعوا قدمًا وسط "الثائرين" كي يحصلوا على نصيب من الغنائم السياسية.
"الأجواء هادئة إلا قليل من الحركة اليومية المعتادة، الكل في مكانه إلا نحن".. يعود "عبدالرازق" لاستكمال ما شهدته السويس يوم الثلاثاء 25 يناير. يقول: "بعد صلاة الظهر تجمعنا في ميدان الإسعاف -الشهداء بعد ذلك- وكنا قرابة 30 فردًا فقط، كنا نتبادل الهتاف "شوفي تونس العفية، عملت ثورة ليها وليا، طردت أكبر فاسد فيها وإحنا الظلم عليك وعليا، ثورة في تونس ثورة في مصر ثورة في كل شوارع مصر".
يلوح بيده يمينًا ويسارًا في محاولة لتوصيف ما عايشه في هذا اليوم: "الشرطة كان عددها يفوقنا أضعاف مضاعفة، لكننا وقفنا واثقين من مطالبنا. بدأنا التحرك لكسر الحلقة التي شكلتها قوات الأمن حولنا. كان أملنا أن ينضم إلينا أكبر عدد من المتواجدين في الميدان، شاهدت في عيون الناس بريق الأمل ورفضهم التخلي عنا في هذا اليوم".
بوعزيزي مصر
كأن الموقف بحاجة إلى "شرارة" للاشتعال، حين انتفض أحد السائقين ساكبًا البنزين على جسده محاولاً إشعاله بالنار على غرار ما فعل محمد بوعزيزي في تونس، وقتها انضم عدد من الأهالي إلينا، وبدأت الأصوات ترتفع بالهتافات. ثم قسمنا أنفسنا إلى مجموعتين تحركتا في اتجاهين معاكسين؛ المسيرة الأولى نحو ديوان المحافظة (رمز السلطة)، والثانية إلى شارع السوق، إلى أن التحمنا سويًا مرة أخرى عند ديوان المحافظة.
وفي حدود السادسة والنصف بدأ تدخل الشرطة بشكل قوي، حتى أن صوت إطلاق الخرطوش كان جليًا و"صليات الرصاص الحي" كانت تأتي من كل حدب،إلى أن تطور الموقف لعمليات ضبط عشوائي للشباب؛ باتت السويس في أعقابها ليلتها وهناك ثلاث شباب قد كُتبت بياناتهم في شهادات الوفاة، وجثثهم داخل المشرحة، التي شهدت هيّ الأخرى أحداثًا درامية في قلب الليل، حيث تجمهرنا أمامها لاستلام الضحايا، لكن قوات الأمن بادرت بإطلاق قنابل غاز مسيل للدموع، اشتم المتظاهرون ريحه للمرة الأولى في حياتهم.
"أصبحت مدينة أخرى، الثورة بثت قوتها في نفوس الأهالي حتى اشتعلت الانتفاضة".. قالها أحمد الكيلاني قبل أن يغادر القاعة التي شهدت الاجتماعات التمهيدية للثورة، ونغادر نحن فيما بعد شارع عبدالخالق ثروت. يؤكد أن القيادات السياسية أكدت حضورها صلاة الغائب على أروح الشهداء يوم الجمعة التي وصفت فيها بعد بـ"جمعة الغضب" لكن انفلات الأحداث أجل حضورهم.
على جانب آخر، من الأحداث التي شهدتها مدينة السويس قبل ثورة يناير، كانت هناك تحركات ملحوظة لشخص يقود حملة توقيعات دعم الدكتور محمد البرادعي، يُدعى مدحت حسن، وصلنا مكتبه القريب من ميدان الأربعين الصاخب حاليًا. تساءلنا عنهم قبل الثورة، أجاب مقتضبًا وعاقدًا جبينه: "الثورة؟.. نحن الآن نعيش حالة كتم للحريات أسوأ مما عاصرنا قبل الثورة".
الشباب وقود الثورات
أضاف: "وقت إنشاء الجمعية الوطنية للتغير، كانت مجموعتنا تتألف من 15 فردًا بأقصى تقدير، كان هدفنا جمع أكبر عدد من التوقيعات. كان يوم الخميس من كل أسبوع يوم عمل تطوعي، نتجمع في كورنيش السويس ونبدأ محاولات إقناع الناس، كان يصل الأمر بنا كثيرًا إلى مناقشات تتخطى الساعة كاملة للفوز بتوكيل واحد. وخلال ذلك أقمنا مجموعة من الفعاليات المحدودة حضرها جورج إسحاق وعبدالرحمن يوسف وعصام العريان".
لم يتخل المحامي الأربعيني عن غضبه الجم على وضع الشباب، تلازمه مقارنة بين عهدي ما قبل الثورة والنظام الحالي: "الشباب مش شايفين أي طاقة أمل وكل الأبواب مقفولة مافيش منفذ وشعاع نور، كما أن تفشي الفساد ساهم في نشوب الثورة".
أقرأ في الملف..
في الذكرى الخامسة لثورة يناير.. ''ما أطول الرحلة'' (ملف خاص)
''رتوش يناير'' على جدران المحلة.. حكايات من قلب ''شرارة الحرية''
عبدالله السناوي: إذا نزعنا ''ثورية'' 25 يناير سقطت 30 يونيو - حوار
بورصة يناير.. مؤشرات 5 أعوام بين القضبان والاختفاء والمنفعة (ملف تفاعلي)
في سنة 5 ثورة .. المَلف الحقوقي ''لم يُراوح مكانه''
''هتيف السويس''.. والاسم ''عربي'' (بروفايل)
نائب رئيس قطاع الأخبار يحكي كواليس تعليمات الحزب الوطني ونهاية مبارك (حوار)
''ثوار''.. جبهة تعثرت في طريق الثورة
فيديو قد يعجبك: