إعلان

منزل فاطمة.. كوكب مصغر للإنسانية "الحلقة الرابعة"

10:14 ص الأحد 29 مارس 2015

كتب-أحمد الليثي ودعاء الفولي وإشراق أحمد:

في الحلقة السابقة: حداد على عبد الناصر في سجن الاحتلال وفرحة فاطمة بنصر 73.. سيرة مناضلات سبقتها، نهج أبيها في المقاومة

في صورة بالركن الأبرز، الجامع لعدد من الذكريات المصورة داخل منزلها، قبالة باب الدخول، يضع ياسر عرفات رأس فاطمة البرناوي على كتفه، يهمس في أذنها فيما تضحك في سعادة بالغة، كانت تلك لحظة خروجها من السجن، بينما كان يقول عرفات "ليه مهربتيش" تعقيبا على عودتها لعملها في التمريض عقب تنفيذها العملية الفدائية، فأجابته والابتسامة تملأ محياها "مكنتش أعرف إني عملت بطولة.. أنا مجرد فرد أدى عمله الطبيعي".

التفاصيل بالنسبة لـ"فاطمة" ابن صغير تربيه، فما كان لها أن تنساه أو تغفله، أخذت من روح الشخصية الفلسطينية والمصرية، تعلق خلف باب الشقة مجسم خشبي صغير لحنظلة، بطل رسومات الفنان ناجي العلي، يجاوره "كارت" كُتب عليه مصر فوق الجميع، حتى عاداتها صارت ممهورة برائحة التقاليد المصرية؛ تضرب بيدها على الخشب تحصنًا من الحسد عند ذِكر سيرة حماتها التي زارتها في مايو الماضي "عمرها 105 سنة.. لما روحت مكنتش تخليني أزور حد عشان أفضل وياها ولو يوم محكتش معها بالتليفون تقول إني مت".

الترحاب والحفاوة بمن يدخل بيتها هما السمت المميز للمناضلة الفلسطينية، لا يوجد عائق للحديث، فن ولوحات تعبر عن القضية، وأخرى عن العائلة التي تحتضن جنسيات مختلفة، فهذا ابن الأخ متزوج من إيطالية، والشقيق المتزوج من عراقية، والأم أردنية لكن الجميع هوية واحدة "فلسطينية"، متواضعة فلا ترى شيء فيما فعلته، بل إنه طبيعة كل مَن ينبت في أرض الزيتون "كل شعبنا أبطال.. أعطوا وضحوا".
كأنما معرض صور هو منزل الخالة، ما تحويه تلك الإطارات أنيسها، تتناثر في كل مكان؛ بالمدخل تتراص مجموعة على منضدة مغطاه بمفرش ذهبي اللون؛ تتقدمها صورتها مع الرئيس الراحل ياسر عرفات، خلفها صورة لها تقف مع زوجها واضعة يديها فوق كتفه "كان لسة خارج من عملية".

من فلسطين لمصر.. الذكريات في القلب
في مرآة أعلى تسريحة تتوسط منزلها ترتكن أربع صور تلخص حبها الأبدي، الأولى لزوجها المناضل الفلسطيني، الثانية منقسمة بين علمي مصر وفلسطين، الثالثة لوالدها الروحي "ياسر عرفات" والأخيرة لذلك الذي تقول فيه الأشعار دون كلل "جمال عبد الناصر هو أكتر شخص وحد الأمة العربية".. تعرف تفاصيل مصر وشوارعها بالشبر؛ في حلوان جلسات العلاج الطبيعي، وبالمعادي إحدى صديقاتها المقربات، وفي مصر الجديدة ومدينة نصر معظم مشاويرها وتنقلاتها "أنا باجي من سنة 59.. أخويا كان هون مع الجيش المصري اللي حارب مع عبد الناصر في 48".
الحدود تراب ليست عبارة شاعرية، تُذكر في المراسم الرسمية بل حقيقة بينة في حياة "فاطمة"؛ هي فلسطينية الأرض والقضية، ونيجيرية الأصل وحاملة لجنسيتها، ومصرية الهوى؛ تحفظ كل أغاني الثورة المصرية، تفخر بتذكر كلمات أغنية عبد الحليم عام 48، التي قد يغيب ذكراها عن العقول "إزاي يا حبيبي إزاي غشوك إزاي وسلاحك بإيدك قتلوك.. أسلحة فسدانة وخسرانة غشونا حكامنا"، كما أنها لا تبخس الناس أشيائها، فتحرص على الحديث عن الفنانة محسنة توفيق، تصفها بإحدى المناضلات المصرية "جت معانا على السودان رغم أنها كانت عاملة عملية في عينيها والمنطقة هناك رملية".

في الثمانينيات بالفترة التي تواجدت بها في لبنان، طالبها أبو عمار أن تصحب معها الفنانة لكي ترى أوضاع المناضلين هناك؛ في "شندي" حيث المنطقة التي هبت رجالها عام 48 لنصرة القضية العربية، فقاتلوا بجانب الجيشين المصري والسوري "بالسكاكين كانوا يحاربوا"، ظلت طبيعة النضال في المكان لم تبرحه، قتل عدد كبير من أباء المنطقة على يد الصهاينة بدم بارد في مجزرة صابرة وشاتيلا، فكان ذلك سببا لحفاوة الترحيب بالوافدين.

حينما بلغت الخالة "فاطمة" و"محسنة توفيق" محطة الوصول، كانت فتيات "شندي" في انتظارهما، يحملون العصائر والتمر "عشان يرحبوا فينا لأننا جايين من الأرض اللي أهلهم استشهدوا فيها"، جلستا بينهم وخففت الفنانة المصرية عن أهل "شندي" بغناء "مصر يا أمه يا بهية" وغيرها من الأغاني الوطنية.

رغم صعوبة الإجراءات المتبعة لدخول مصر، والتي تسببت في احتجاز زوجها بمطار القاهرة بالثمانينيات، وقت سفره لرؤية أهله بعكا، غير أنه لم يتمكن أحد من منع "فاطمة" عن الدخول، بعد أن عبرت بكلمات صارمة وصادقة لمسؤول المطار "أنت مخترتش تكون مصري لكن أنا أخترت أكون مصرية بلدي وشعبي هون".

خفيفة الظل هي الخالة، لا تترك جملة إلا ويمرق بها مزاح، تبتسم له القلوب قبل الثغور، تتحرك السيدة التي تساعدها بأعمال البيت جيئة وذهابا، فتداعبها صاحبة المنزل، تطلب منها إحضار شاي المريمية "لأنه زكي كتير"، تحكي عن أصل التسمية، فيما تتحدى حاملة الصينية أن تصفق بيديها دون أن تسقط أكواب الشاي.
بضعة خطوات تفصل غرفة داخلية لاستقبال الضيوف، تحتفظ فيها المناضلة بلحظات أخرى متجمدة من الزمن؛ صورة لها جالسة على مكتب، مرتدية زي الشرطة، كُتب على لافتة صغيرة أمامها "العقيد فاطمة البرناوي"، تقف أمامها بفخر، كان شعرها مسدلا على هيئة جدائل، وأخرى تحمل فيها إحدى الطفلتين اللتين تبنتهما، بينما تضع ألبوما صغيرا يحمل صور مختلفة على منضدة صغيرة أسفل الحائط.

تتحرك السيدة بحذر في تلك الغرفة التي لا يدخلها إلا قليلون، يمين مدخلها يقع دولاب يحمل تذكار من معظم البلدان التي زارتها، كل حسب ثقافته "بحب أحتفظ بهاي الأشياء"، على جانبه الأيسر تقع صورة للزوج الراحل يوقع عقد الزواج الذي شهد عليه "أبو عمّار"، بينما حرصت هي أن تعلق صورتها بفستان الزفاف داخل غرفة النوم.

لوحة تأخذ شكل المرآة، نُقش اسم "فاطمة البرناوي" عليها كأحد هدايا التكريم، أسفلها جلست المناضلة على مقعدها المفضل، ذي مسندين وظهر صلب، ما يناسب حالتها الصحية، قبل أن تحكي عن تلك الواقعة التي ربطت ذكرها بالقدس منذ الصغر "أبويا قال مين منكوا يروح.. وأنا اخترت" في صباح كل جمعة قبيل الصلاة تركض "فاطمة" والأطفال في براح القدس، تتناثر أوراق الشجر، فيلملم الصبية الأوراق في بهجة، تُعبئ أباريق المياه -كان نصيبها بين الأطفال أبريقين من الفخار، تصنع شرائط من قماش للعب دور الأم مع فتاة تصغرها وهي تزين شعرها، تجري في الحرم، تتفن في تنسيق نسخ القرآن أعلى الرفوف، تحملق في مشكاة تتدلى من الأسقف، تحفظ أحذية المصلين في أعمدة خشبية، تقول في مرح "مكنش حدا يسرق جزمة حد"، يوجعها آنين الذكريات فتطلق زفرة، وتغرورق عيناها بالدموع على المقدسية التي داستها أقدام المحتل.

الحلقات السابقة: 

فاطمة تزلزل إسرائيل بحقيبة يد وأغنية لأم كلثوم.. "الحلقة الأولى"

كيف هزمت ابنة البرناوي إسرائيل بحذاء الكعب العالي؟ "الحلقة الثانية"

"التنكيد" على إسرائيل "فن" تعرفه فاطمة البرناوي.. "الحلقة الثالثة" 

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان